قوله عز وجل : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } أي إذا فرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ، { وابتغوا من فضل الله } يعني الرزق وهذا أمر إباحة ، كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا }( المائدة-2 ) قال ابن عباس : إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر ، وقيل : فانتشروا في الأرض ليس لطلب الدنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله . وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول : { وابتغوا من فضل الله } هو طلب العلم . { واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } .
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الاشتغال في التجارة ، مظنة الغفلة عن ذكر الله ، أمر الله بالإكثار من ذكره ، فقال : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر تيسيره عليهم فى تشريعاته فقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله . . } .
أى : فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكل وجه ، فانتشروا فى الأرض ، وامشوا فى مناكبها ، لأداء أعمالكم التى كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة ، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق ، من فضل الله - تعالى - ومن فيض إنعامه ، والأمر هنا للإباحة ، لأنه وارد بعد حظر ، فهو كقوله - تعالى - : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا . . } أى : أن الانتشار فى الأرض بعد الصلاة لطلب الرزق ، ليس واجبا عليهم ، إذ طلب الرزق قد يكون فى هذا الوقت ، وقد يكون فى غيره . .
والمقصود من الآية إنما هو تنبيه الناس ، إلى أن لهم فى غير وقت الصلاة ، سعة من الزمن فى طلب الرزق ، وفى الاشتغال بالأمور الدنيوية ، فعليهم أن يسعوا إلى ذكر الله ، إذا ما نودى للصلاة من يوم الجمعة ، وأن يحرصوا على ذلك حرصا تاما ، مصحوبا بالنية الطيبة ، وبالهيئة الحسنة . وبالمضى المبكر إلى المسجد .
وقوله - سبحانه - : { واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تحذير لهم من الانتشار فى الأرض لمصالحهم الدنيوية ، دون أن يعطو طاعة الله - تعالى - وعبادته ، ما تستحقه من عناية ومواظبة .
أى : إذا قضيت الصلاة ، فانتشروا فى الأرض لتحصيل معاشكم ، دون أن يشغلكم ذلك عن الإكثار من ذكر الله - تعالى - فى كل أحوالكم ، فإن الفلاح كل الفلاح فى تقديم ما يتعلق بأمور الدين ، على ما يتعلق بأمور الدنيا ، وفى تفضيل ما يبقى على ما يفنى .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها ترسم للمسلم التوازن السامى ، بين ما يقتضيه دينه ، وما تقتضيه دنياه .
إنا تأمره بالسعى فى الأرض ، ولكن فى غير وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة ، ودون أن يشغله هذا السعى عن الإكثار من ذكر الله ، فإن الفلاح فى الإقبال على الطاعات التى ترضيه - سبحانه - : ومن بين هذه الطاعات أن يكثر الإنسان من ذكر الله - تعالى - ، حتى فى حالة سعيه لتحصيل رزقه .
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الإرض ، وابتغوا من فضل الله ، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون . . وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي . التوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض ، من عمل وكد ونشاط وكسب . وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر . وهي ضرورة لحياة القلب لايصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى . وذكر الله لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش ، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة . ولكنه - مع هذا - لابد من فترة للذكر الخالص ، والانقطاع الكامل ، والتجرد الممحض . كما توحي هاتان الآيتان .
وكان عراك بن مالك - رضي الله عنه - إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : " اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني . فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين " . . [ رواه ابن أبي حاتم ] . . وهذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جدا ، في بساطة تامة ، فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك !
ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه ، مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية . مما تصوره الآية الأخيرة في السورة :
وقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } أي : فُرغ منها ، { فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع ، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله . كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبتُ دعوتَك ، وصليتُ فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك ، وأنت خير الرازقين . رواه ابن أبي حاتم .
وروي{[28857]} عن بعض السلف أنه قال : من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة ، بارك الله له سبعين مرة ، لقول الله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
وقوله : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : حال بيعكم وشرائكم ، وأخذكم وعَطَائكم ، اذكروا الله ذكرا كثيرا ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ؛ ولهذا جاء في الحديث : " من دخل سوقا من الأسواق فقال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير كُتبت{[28858]} له ألفُ ألف حَسنة ، ومُحي عنه ألفُ ألف سَيئة " {[28859]}
وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا ، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا .
وقوله : { فانتشروا } أجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر الإباحة ، وكذلك قوله تعالى : { وابتغوا من فضل الله } أنه الإباحة في طلب المعاش ، وأن ذلك مثل قوله تعالى :
{ وإذا حللتم فاصطادوا }{[11097]} [ المائدة : 2 ] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ذلك الفضل المبتغى هو عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة »{[11098]} .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ينبغي أن يكون المرء بقية يوم الجمعة{[11099]} ، ويكون نحوه صبيحة يوم السبت ، قاله جعفر بن محمد الصادق ، وقال مكحول : الفضل المبتغي العلم ، فينبغي أن يطلب إثر الجمعة .
وإنما أعقب بقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } تنبيهاً على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة ، وذكر الله . والأمر في { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } للإباحة .
والمراد ب { فضل الله } : اكتساب المال والرزق .
وأما قوله : { واذكروا الله كثيراً } فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصباباً ينسي ذكر الله ، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإِقبال على مرضاة الله تعالى .