{ جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة لا يزولون عنها ، ولا يبغون عنها حولا ؛ لأنهم لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور ، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات .
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم { يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } من الذكور والإناث { وَأَزْوَاجِهِمْ } أي الزوج أو الزوجة وكذلك النظراء والأشباه ، والأصحاب والأحباب ، فإنهم من أزواجهم وذرياتهم ، { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم
وقوله - سبحانه - { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } تفصيل للمنزلة العالية التي أعدها - سبحانه - لهم .
أى : أولئك الذين قدموا ما قدموا في دنياهم من العمل الصالح ، لهم جنات دائمة باقية ، يدخلونها هم { وَمَنْ صَلَحَ } أى : ومن كان صالحا لدخولها { مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } .
أى : من أصولهم وفروعهم وأزواجهم على سبيل التكريم والزيادة في فرحهم ومسيرتهم .
وفى قوله - سبحانه - { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ . . . } دليل على أن هؤلاء الأقارب لا يستحقون دخول الجنة ، إلا إذا كانت أعمالهم صالحة ، إما إذا كانت غير ذلك فإن قرابتهم وحدها لا تنفعهم في هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال الإِمام ابن كثير : وقوله { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أى : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ، لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانا من الله وإحسانا ، كما قال - تعالى - { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } وقوله - سبحانه - { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم . . . } زيادة في تكريمهم ، وحكاية لما تحييهم به الملائكة .
أى : والملائكة يدخلون على هؤلاء الأوفياء الصابرين . . من كل باب من أبواب منازلهم في الجنة ، قائلين لهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أى : أمان دائم عليكم { بِمَا صَبَرْتُمْ } أى : بسبب صبركم على كل ما يرضى الله - تعالى - .
{ فَنِعْمَ عقبى الدار } أى : فنعم العاقبة عاقية دنياكم ، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة المقام عليه ، أى : الجنة .
وفى قوله - سبحانه - { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } إشارة إلى كثرة قدوم الملائكة عليهم ، وإلى كثرة أبواب بيوتهم ، تكريما وتشريفا وتأنيسا لهم .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم ، وتلاقي أحبابهم ، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم ، في حركة رائجة غادية :
( يدخلون عليهم من كل باب ) . .
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا :
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } أي : عن المحارم والمآثم ، ففطموا{[15565]} نفوسهم عن ذلك لله عز وجل ؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها{[15566]} وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب ، من فقراء ومحاويج ومساكين ، { سِرًّا وَعَلانِيَةً } أي : في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، في آناء الليل وأطراف النهار ، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34 ، 35 ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ، ثم فسر ذلك بقوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة ، أي : جنات إقامة يخلدون{[15567]} فيها .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له : " عدن " ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة{[15568]} لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .
وقال الضحاك في قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها . رواهما ابن جرير .
وقوله : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه{[15569]} ترفع{[15570]} درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانًا من الله وإحسانا ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] . {[15571]}-{[15572]} وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند{[15573]} دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام ، والإقامة في دار السلام ، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا{[15574]} معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما{[15575]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون{[15576]} الذين تُسدُّ بهم الثغور ،
وتُتَّقَى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم . فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك ، وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا{[15577]} يشركون بي شيئًا ، وتُسَد{[15578]} بهم الثغور ، وتتقى{[15579]} بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء " . قال : " فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب ، { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }{[15580]} ورواه أبو القاسم الطبراني ، عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن وهب ، عن عَمْرو بن الحارث ، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين ، الذين تتقى بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار ، ونُقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا{[15581]} في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }{[15582]} وقال عبد الله بن المبارك ، عن بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا أرطأة بن المنذر ، سمعت رجلا من مشيخة الجند ، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول [ أقصى الخدم ]{[15583]} للذي يليه : " مَلك يستأذن " ، ويقول الذي يليه للذي يليه : " ملك يستأذن " ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا . فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف . رواه ابن جرير . {[15584]} ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطأة بن المنذر ، عن أبي الحجاج{[15585]}
يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة ، فذكر نحوه .
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول ، فيقول لهم : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } وكذا أبو بكر ، وعمر وعثمان . {[15586]}
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة ، بأن لهم { عُقْبَى الدَّارِ } وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة .
{ جنات عدن } بدل من { عقبى الدار } أو مبتدأ خبر { يدخلونها } والعدن الإقامة أي جنات يقيمون فيها ، وقيل هو بطنان الجنة . { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } عطف على المرفوع في يدخلون ، وإنما ساغ للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم ، وفي التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع . { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين : { سلام عليكم } .
{ جنات عدن } بدل من { عقبى الدار } . والعَدْن : الاستقرار . وتقدم في قوله : { ومساكن طيبة في جنات عدن } في سورة براءة ( 72 ) .
وذكر { يدخلونها } لاستحضار الحالة البهيجة . والجملة حال من { جنات } أو من ضمير { لهم عقبى الدار } ، والواو في { ومن صلح من آبائهم } واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها ؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لَحِق بهم ، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقُوا هم به ، فلهم الفضل في الحالين . وهذا كعكسه في قوله تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [ سورة الصافات : 22 ] الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذابٌ مضاعف .
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلاة أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه ، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى كما قال الله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } [ سورة الطور : 21 ] .
والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا : الأبوين .
وجملة { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } عطف على { يدخلونها } فهي في موقع الحال . وهذا من كرامتهم والتنويه بِهم ، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه .
وذكر { من كل باب } كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكةٌ . ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيراً في الأمكنة . ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم ، فكأنه قيل من كل باب في كل آنٍ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى:"جَنّاتُ عَدْنٍ" ترجمة عن عقبى الدار، كما يقال: نعم الرجل عبد الله، فعبد الله هو الرجل المقول له: نعم الرجل، وتأويل الكلام: أولئك لهم عقيب طاعتهم ربهم الدار التي هي جنات عدن. وقد بيّنا معنى قوله: «عدن»، وأنه بمعنى الإقامة التي لا ظَعْن معها.
وقوله: "وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائهِمْ وأزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ "يقول تعالى ذكره: جنات عدن يدخلها هؤلاء الذين وَصَفْتُ صفتهم، وهم الذين يوفون بعهد الله، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وأقاموا الصلاة، وفعلوا الأفعال التي ذكرها جلّ ثناؤه في هذه الآيات الثلاث، "وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهم وأزْوَاجِهِمْ" وَهِيَ نِساؤُهُمْ وأهلوهم وذرّياتهم. وصلاحهم: إيمانهم بالله واتباعهم أمره وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام... وقوله: "وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهم مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ" يقول: تعالى ذكره: وتدخل الملائكة على هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه الآيات الثلاث في جنات عَدْن، من كلّ باب منها، يقولون لهم: "سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ" على طاعة ربكم في الدنيا، "فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ"... وحذف من قوله: "وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهمْ مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ" «يقولون» اكتفاء بدلالة الكلام عليه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... الصلاح: استقامة الحال إلى ما يدعو إليه العقل أو الشرع. والمصلح من يفعل الصلاح، والصالح المستقيم الحال في نفسه.
(والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) أي يدخلون من كل باب بالتحية والكرامة، وفي ذلك تعظيم الذكر للملائكة...
في الآية دلالة على أن ثواب المطيع لله سروره بما يراه في غيره من أحبته، لأنهم يسرون بدخول الجنة مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وهم أولادهم، وذلك يقتضي سرورهم بهذا الخبر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يتم النعمة عليهم بأن يجمع بينهم وبين مَن يُحبون صحبتهم مِنْ أقاربهم وأزواجهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وبينها بقوله: {جنات عدن} أي إقامة طويلة... وهي أعلى الجنان؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال: {يدخلونها}.
ولما كانت الدار لا تطيب بدون الحبيب، قال عاطفاً على الضمير المرفوع إشارة إلى أن النسب الخالي غير نافع: {ومن صلح} والصلاح: استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع {من آبائهم} أي الذين كانوا سبباً في إيجادهم {وأزواجهم وذرياتهم} أي الذين تسببوا عنهم؛ ثم زاد في الترغيب بقوله سبحانه وتعالى: {والملائكة يدخلون عليهم} لأن الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز.
ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والإكرام، قال: {من كل باب}
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
التقييد بالصلاح قطعٌ للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{جنات عدن} بدل من {عقبى الدار}. والعَدْن: الاستقرار. وتقدم في قوله: {ومساكن طيبة في جنات عدن} في سورة براءة (72).
وذكر {يدخلونها} لاستحضار الحالة البهيجة. والجملة حال من {جنات} أو من ضمير {لهم عقبى الدار}، والواو في {ومن صلح من آبائهم} واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لَحِق بهم، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقُوا هم به، فلهم الفضل في الحالين. وهذا كعكسه في قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [سورة الصافات: 22] الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذابٌ مضاعف.
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلاة أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى كما قال الله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} [سورة الطور: 21].
والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا: الأبوين.
وجملة {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} عطف على {يدخلونها} فهي في موقع الحال. وهذا من كرامتهم والتنويه بِهم، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه.
وذكر {من كل باب} كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكةٌ. ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيراً في الأمكنة. ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم، فكأنه قيل من كل باب في كل آنٍ.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقوله تعالى في هذا السياق: {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} فيه إشارة واضحة إلى أن البيئة التي تشيع فيها مثل هذه الخصال ينتشر فيها الخير والبر، حتى يشمل جميع أعضائها وأفرادها، لأنهم يتنفسون في جو مفعم بالطهر والصلاح والقدوة الحسنة، فيرثون الصلاح خلفا عن سلف، وأبا عن جد...