ثم أشار - سبحانه - إلى جانب من حكمته فى تشريعاته فقال : { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } .
وقوله { يُحْفِكُمْ } من الإِحفاء بمعنى الإِلحاف : وهو المبالغة فى الطلب . ييقال : أحفاه فى المسألة ، إذا ألح عليه فى طلبها إلحاحا شديدا ، ومنه قوله - تعالى - { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } وأصله من أحفيت البعير ، إذا أرهقته فى المشى حتى انبرى ورق خفه .
أى : إن يكلفكم بأخراج جميع أموالكم ، ويبالغ فى طلب ذلك منكم ، تبخلوا بها فلا تعطوها ، وبذلك { يُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أى : يظهر أحقادكم وكراهيتكم لهذا التكليف ، لأن حبكم الجم للمال يجعلكم تكرهون كل تشريع يأمركم بإخراج جميع أموالكم .
فقوله { فَيُحْفِكُمْ } عطف على فعل الشرط ، وقوله { تَبْخَلُواْ } جواب الشرط ، وقوله : { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } معطوف على هذا الجواب .
( إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ، ويخرج أضغانكم ) . .
وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير ، كما يوحي برحمته ولطفه بالنفوس . ويكشف عن التقدير الدقيق في تكاليف هذا الدين ، ومراعاته للفطرة ، وتناسقه مع بشرية البشر بكل استعداداتها ، وطاقاتها ، وأحوالها . فهو عقيدة ربانية لإنشاء نظام رباني إنساني . نظام رباني من ناحية أن الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده ؛ وإنساني من ناحية أن الله يراعي في تكاليفه طاقة الإنسان وحاجته . والله هو الذي خلق ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
ثم قال : { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا } أي : يحرجكم{[26725]} تبخلوا : { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }
قال قتادة : " قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان " . وصدق قتادة فإن المال محبوب ، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه .
{ إن يسألكموها فيحفكم } فيجهدكم بطلب الكل والإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال : أحفى شاربه إذ أستأصله . { تبخلوا } فلا تعطوا . { ويخرج أضغانكم } ويضغنكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى ، ويؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإضغان ، وقرئ " وتخرج " بالتاء والياء ورفع { أضغانكم } .
ثم قال تعالى منبهاً على خلق ابن آدم { إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا } والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسؤول كرهاً ، ومنه حفاء الرجل . والتحفي من البحث عن الشيء . وقوله : { تبخلوا } جزم على جواب شرط .
وقرأ جمهور القراء : «ويخرجْ » جزماً على { تبخلوا } . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : «ويخرجُ » بالرفع على القطع ، بمعنى هو يخرج ، وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة : { و } بالنصب على معنى : يكن بخل وإخراج ، فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج ، والفاعل في قوله : { ويخرج } على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله ، ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ ، ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضاً . وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب : «يخرج » بفتح الياء «أضغانُكم » رفعاً على أنها فاعلة وروي عنهم : «وتُخرَج » بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله .
وقرأ يعقوب : «ونُخرِج » بضم النون وكسر الراء «أضغانَكم » نصباً . والأضغان كما قلنا معتقدات السوء ، وهذا الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال .
جملة { إنْ يسألكموها } الخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم ، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبْخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سبباً لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيَكثر الارتداد والنفاق وذلك يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان .
وهذا مراعاة لحال كثير يومئذٍ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسَّر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك ، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم ، قال تعالى : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفَضّوا } [ المنافقون : 7 ] . وهذا يشير إليه عطف قوله : { ويُخرج أضغانكم } أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سبباً في ظهورها فكأنه أظهرها . وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد .
والإحفاء : الإكثار وبلوغ النهاية في الفعل ، يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح .
وعن عبد الرحمن بن زيد : الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيديك ، وهو تفسير غريب . وعبر به هنا عن الجزم في الطلب وهو الإيجاب ، أي فيوجب عليكم بذل المال ويجعل على منعه عقوبة .
والضغن : العداوة ، وتقدم آنفاً عند قوله { أن لن يخرج الله أضغانهم } [ محمد : 29 ] . والمعنى : يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية ، فلطفُ الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالاً على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئاً فشيئاً لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد .
والضمير المستتر في { ويخرج } عائد إلى اسم الجلالة ، وجوز أن يعود إلى البخل المأخوذ من قوله : { تبخلوا } أي من قبيل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] . وقرأ الجمهور { يخرج } بياء تحتية في أوله . وقرأه يعقوب بنون في أوله .