{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق } أى : وكذب جمهور قومك بهذا العذاب الذى حدثناك عنه فظنوا أن الله لن يعذبهم بسبب إعراضهم عن دعوتك ، أو كذبوا بهذا القرآن الذى هو معجزتك الكبرى .
والتعبير عنهم بقومك تسجيل عليهم بسوء المعاملة لمن هو من أنفسهم وجمله { وَهُوَ الحق } مستأنفة لقصد تحقيق القدرة على بعث العذاب عليهم ، أو حال من ىلهاء فى به ، أى : كذبوا حال كونه حقا ، وهو أعظم فى القبح قل لهم - يا محمد - { لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أى : لم يفوض إلى أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق ، فأنا لست بقيم عليكم وإنما أنا منذر وقد بلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكنكم لا تحبون الناصحين .
ثم ختم هذا التهديد بقوله - تعالى - { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } .
( وكذب به قومك - وهو الحق - قل : لست عليكم بوكيل . لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) . .
والخطاب لرسول الله [ ص ] يعطيه ، ويعطي المؤمنين من ورائه ، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة . الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر ، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه . وهو يقرر أنه الحق . وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم !
يقول تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ } أي : بالقرآن الذي جئتهم به ، والهدى والبيان . { قَوْمُكَ } يعني : قريشا { وَهُوَ الْحَقُّ } أي : الذي ليس وراءه حق { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : لست عليكم بحفيظ ، ولست بموكل بكم ، كقوله { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] أي : إنما علي البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني ، سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني ، فقد شقي في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ }
والضمير في { به } عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات ، قاله السدي وهذا هو الظاهر ، وقيل يعود على النبي عليه السلام وهذا بعيد لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف في قوله : { قومك } ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري ، وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبك قومك » بزيادة تاء ، و { بوكيل } معناه بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى ، والوكيل بمعنى الحفيظ ، وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ ، وقيل لا نسخ في هذا إذ هو خبر . قال القاضي أبو محمد : والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لس الآن ، وليس فيه أنه لا يكون في المستأنف .
عطف على { انظر كيف نُصَرّفُ الآيات } [ الأنعام : 65 ] ، أي لعلَّهم يفقهون فلم يفقهوا وكذّبوا . وضمير { به } عائد إلى العذاب في قوله { على أن يبعث عليكم عَذَاباً } [ الأنعام : 65 ] ، وتكذيبهم به معناه تكذيبهم بأنّ الله يعذّبهم لأجل إعراضهم .
والتعبير عنهم ب { قومك } تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم ، كقوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القُرْبى } [ الشورى : 23 ] ، وقال طرفة :
وظُلْمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً *** على المرْء من وقْع الحُسام المهنّدِ
وتقدّم وجه تعدية فعل ( كذّب ) بالباء عند قوله تعالى : { وكذّبتم به } في هذه السورة [ 57 ] .
وجملة { وهو الحقّ } معترضة لقصد تحقيق القدرة على أن يبعث عليهم عذاباً الخ .
وقد تحقّق بعض ذلك بعذاببٍ من فوقهم وهو عذاب القحط ، وبإذاقتهم بأس المسلمين يوم بدر .
ويجوز أن يكون ضمير به عائداً إلى القرآن ، فيكون قوله : { وكذّب به } رجوعاً بالكلام إلى قوله { قل إنِّي على بيِّنة من ربِّي وكذّبتم به } [ الأنعام : 57 ] ، أي كذّبتم بالقرآن ، على وجه جعل ( مِنْ ) في قوله : { من ربِّي } [ الأنعام : 57 ] ابتدائية كما تقدّم ، أي كذّبتم بآية القرآن وسألتم نزولَ العذاب تصديقاً لرسالتي وذلك ليس بيدي . ثم اعتُرض بجمل كثيرة . أولاها : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] ، ثم ما بعده من التعريض بالوعيد ، ثم بنى عليه قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } فكأنّه قيل : قل إنّي على بيّنة من ربّي وكذّبتم به وهو الحقّ قُل لست عليكم بوكيل .
وقوله : { قل لست عليكم بوكيل } إرغام لهم لأنَّهم يُرُونَه أنَّهم لمَّا كذّبوه وأعرضوا عن دعوته قد أغاظوه ، فأعلمهم الله أنَّه لا يغيظه ذلك وأنّ عليه الدعوة فإذا كانوا يُغيظون فلا يغيظون إلاّ أنفسهم .
والوكيل هنا بمعنى المدافع الناصر ، وهو الحفيظ . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا حسبُنا الله ونعم الوكيل } في سورة [ آل عمران : 173 ] .
وتعديته ب ( على ) لتضمنّه معنى الغلبة والسلطة ، أي لست بقيِّم عليكم يمنعكم من التكذيب ، كقوله تعالى : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] .