قوله تعالى : { إن الذين كفروا بالذكر } بالقرآن ، { لما جاءهم } ثم أخذ في وصف الذكر وترك جواب : { إن الذين كفروا } ، على تقدير : الذين كفروا بالذكر يجأرون بكفرهم . وقيل : خبره قوله من بعد : { أولئك ينادون من مكان بعيد } . { وإنه لكتاب عزيز } قال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما : كريم علي : قال قتادة : أعزه الله عز وجل فلا يجد الباطل إليه سبيلاً . وهو قوله{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }
ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ } أي : يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع مصالحهم الدينية والدنيوية والأخروية ، المُعلي لقدر من اتبعه ، { لَمَّا جَاءَهُمْ } نعمة من ربهم على يد أفضل الخلق وأكملهم . { و } الحال { إِنَّهُ لَكِتَابٌ } جامع لأوصاف الكمال { عَزِيزٌ } أي : منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء ، ولهذا قال : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ }
ثم أضاف - سبحانه - إلى ما سبق تهديدا ثالثا فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ } .
وخبر " إن " هنا محذوف للعلم به مما سبق ، أى : إن الذين كفروا بالقرآن الكريم حين جاءهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخاسرون أو هالكون أو معذبون عذابا شديدا . { وإنه } أى : هذا القرآن الكريم هو الحق الذى جاءهم به صلى الله عليه وسلم ، لعل هذا التدبر يوصلهم إلى الهداية والرشاد { لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أى : لكتاب منيع معصوم بعصمة الله - تعالى - له من كل تحريف أو تبديل .
ويستطرد إلى الذين يكفرون بآيات الله القرآنية ، والقرآن كتاب عزيز قوي منيع الجانب ، لا يدخل عليه الباطل من قريب ولا من بعيد :
إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ، وإنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ! أأعجمي وعربي ? قل : وهو للذين آمنوا هدى وشفاء . والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ً ، أولئك ينادون من مكان بعيد .
والنص يتحدث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ؛ ولا يذكر ماذا هم ولا ماذا سيقع لهم . فلا يذكر الخبر : ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم . . . )كأنما ليقال : إن فعلتم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها !
لذلك يترك النص خبر( إن )لا يأتي به ويمضي في وصف الذكر الذي كفروا به لتفظيع الفعلة وتبشيعها :
ثم قال تعالى : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } . يريد قريشاً . و«لذكر » : القرآن بإجماع . واختلف الناس في الخبر عنهم أين هو ؟ فقالت فرقة : هو في قوله : { أولئك ينادون من مكان بعيد }{[10088]} ذكر النقاش أن بلال بن أبي بردة{[10089]} سأل عن هذا في مجلسه وقال : لم أجد لها نفاذاً ، فقال له أبو عمرو بن العلاء{[10090]} : إنه منك لقريب { أولئك ينادون } [ فصلت : 44 ] . ويرد هذا النظر كثرة الحائل ، وإن هنالك قوماً قد ذكروا بحسن رد قوله : { أولئك ينادون } [ فصلت : 44 ] عليهم . وقالت فرقة : الخبر مضمر تقديره : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } هلكوا أو ضلوا . وقال بعض نحويي الكوفة الجواب في قوله : { وإنه لكتاب عزيز } حكى ذلك الطبري ، وهو ضعيف لا يتجه ، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن هذا ، فقال عمرو معناه في التفسير : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } كفروا به { وإنه لكتاب } ، فقال عيسى بن عمر : أجدت يا أبا عثمان .
قال القاضي أبو محمد : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر ، ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه ، وإنما هو بعد { حكيم حميد } وهو أشد إظهاراً لمذمة الكفار به ، وذلك أن قوله : { وإنه لكتاب } داخل في صفة الذكر المكذب به ، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه ، وهذا كما تقول : تخالف زيداً وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره ، فهذه كلها أوصاف .
ووصف تعالى الكتاب بالعزة ، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله تعالى ، قال ابن عباس : معناه كريم على الله تعالى ، قال مقاتل : منيع من الشيطان . قال السدي : غير مخلوق .