البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكۡرِ لَمَّا جَآءَهُمۡۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ} (41)

{ إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } : هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم ، والذكر : القرآن هو بإجماع ، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف ؟ فقيل : مذكور ، وهو قوله : { أولئك ينادون من مكان بعيد } ، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة .

سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال : لم أجد لها نفاذاً ، فقال له أبو عمرو : وإنه منك لقريب { أولئك ينادون } .

وقال الحوفي : ويرد على هذا القول كثرة الفصل ، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم ، وهو قوله : { والذين لا يؤمنون في آذناهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون } .

وقيل : محذوف ، وخبر إن يحذف لفهم المعنى .

وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو : معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به ، وإنه لكتاب ، فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان .

وقال قوم : تقديره معاندون أو هالكون .

وقال الكسائي : قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن ، وهو قوله : { أفمن يلقى في النار } .

انتهى ، كأنه يريد : دل عليه ما قبله ، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار .

وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { إن الذين كفروا بالذكر } ؟ قلت : هو بدل من قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا } . انتهى .

ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف ، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه ، لأنه ادّعى أن قوله : { إن الذين كفروا بالذكر } بدل من قوله : { إن الذين يلحدون } ، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل ، فيكون التقدير : { إن الذين يلحدون في آياتنا } ، { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } لا يخفون علينا .

وقال ابن عطية : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد { حكيم حميد } ، وهو أشد إظهاراً ، لأن قوله : { وإنه لكتاب عزيز } داخل في صفة الذكر المكذب به ، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه .

انتهى ، وهو كلام حسن .

والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور ، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن ، وذلك في قوله : { لا يأتيه بالباطل } : أي الباطل منهم ، أي الكافرون به ، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم ، أي متى رامو فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه ، أو تكون أل عوضاً من الضمير على قول الكوفيين ، أي لا يأتيه باطلهم ، أو يكون الخبر قوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } ، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك .

ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل ، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك ، وفي الآخرة بالعذاب الدائم .

وغاية ما في هذين التوجهين حذف الضمير العائد على اسم إن ، وهو موجود ، نحو قوله : السمن منوان بدرهم : أي منوان منه والبر كرّ بدرهم : أي كر منه .

وعن بعض نحاة الكوفة : الخبر في قوله : { وإنه لكتاب عزيز } ، وهذا لا يتعقل .

{ وإنه لكتاب عزيز } : جملة حالية ، كما تقول : جاء زيد وأن يده على رأسه ، أي كفروا به ، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب ، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع .

وقال ابن عباس : عزيز كريم على الله تعالى .

وقال مقاتل : ممتنع من الشيطان .

وقال السدي : غير مخلوق .

وقيل : وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله ،