ثم أخبر - سبحانه - عن نوع آخر من الخدم ، يطوفون على هؤلاء الأبرار لخدمتهم ، فقال : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } .
أى : ويطوف على هؤلاء الأبرار { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أى : دائمون على ما هم عليه من النضارة والشباب . . إذا رأيتهم - أيها المخاطب { حَسِبْتَهُمْ } وظننتهم { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أى : حسبتهم من حسنهم ، وصفاء ألوانهم ، ونضارة وجوههم . . لؤلؤا ودرا مفرقا فى جنبات المجالس وأوسطها .
فقوله - تعالى - { مُّخَلَّدُونَ } احتراس المقصود منه دفع توهم أنهم سيصيرون فى يوم من الأيام كهولا ، قالوا : وشبهوا باللؤلؤ المنثور ، لأن اللؤلؤ إذا نثر على البساط ، كان أكثر جمالا منه فيما لو كان منظوما .
وقوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } أي : يطوف على أهل الجنة للخدْمَة ولدانٌ من ولدان الجنة { مُخَلَّدُونَ } أي : على حالة واحدة مخلدون عليها ، لا يتغيرون عنها ، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن . ومن فسرهم بأنهم مُخَرّصُونَ في آذانهم الأقرطة ، فإنما عبر عن المعنى بذلك ؛ لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويطوف عليهم ولدان مخلدون} فأما الولدان فهم الغلمان الذين لا يشيبون أبدا مخلدون، يعني لا يحتلمون، ولا يشيبون أبدا هم على تلك الحال لا يختلفون ولا يكبرون.
قال: {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} في الحسن والبياض، يعني في الكثرة، مثل اللؤلؤ المنثور الذي لا يتناهى عدده.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويطوف على هؤلاء الأبرار ولدان، وهم الوصفاء، مخلّدون. معنى ذلك: أنهم لا يموتون.
وقال آخرون: عنى بذلك" وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ": مُسَوّرون.
وقال آخرون: بل عنى به أنهم مقرّطون.
وقيل: عنى به أنهم دائم شبابهم، لا يتغيرون عن تلك السنّ.
وقوله: "إذَا رأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤا مَنْثُورا "يقول تعالى ذكره: إذا رأيت يا محمد هؤلاء الولدان مجتمعين أو مفترقين، تحسبهم في حُسنهم، ونقاء بياض وجوههم، وكثرتهم، لؤلؤا مبدّدا، أو مجتَمِعا مصبوبا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وإنما شبهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة. ولو كانوا صفا لشبهوه بالمنظوم.
والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ" المكنون "المخزون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر المطوف به لأنه الغاية المقصودة، وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة تصويراً لما هم فيه من الملك بعد ما نجوا منه من الهلك: {ويطوف عليهم} أي بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي غلمان هم في سن من هو دون البلوغ، {مخلدون} أي قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير غلة ولا ارتفاع عن ذلك الحد مع أنهم مزينون بالخلد وهو الحلق والأساور والقرطة والملابس الحسنة {إذ رأيتهم} أي يا أعلى الخلق صلى الله عليه وسلم وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي من كان في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} من بياضهم وصفاء ألوانهم ولمع أنوارهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض وانبثاثهم في المجالس ذهاباً وإياباً {لؤلؤاً منثوراً} وذلك كناية عن كثرتهم وانتشارهم في الخدمة وشرفهم وحسنهم؛ وعن بعضهم أن لؤلؤ الجنة في غاية الكبر والعظمة واختلاف الأشكال، وكأنه عبر بالحسبان إشارة إلى أن ذلك مطلق تجويز لا مع ترجيح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا طواف آخر غير طواف السُقاة المذكورِ آنفاً بقوله: {ويطاف عليهم بآنية من فضة} [الإنسان: 15]، فهذا طواف لأداء الخِدمة فيشمل طواف السقاة وغيرهم.
و {وِلْدَان}: جمع وليد وأصل وليد فعيل بمعنى مفعول ويطلق الوليد على الصبي مجازاً مشهوراً بعلاقة ما كان، لقصد تقريب عهده بالولادة، وأحسن من يتخذ للخدمة الوِلدان، لأنهم أخف حركةً وأسرع مشياً ولأن المخدوم لا يتحرج إذا أمرهم أو نهاهم.
ووصفوا بأنهم {مخلَّدون} للاحتراس مما قد يوهمه اشتقاق {وِلدان} من أنهم يشبون ويكتهلون، أي لا تتغير صفاتهم فهم وِلدان دَوْماً وإلاّ فإن خلود الذوات في الجنة معلوم فما كان ذكره إلاّ لأنه تخليد خاص.
وشُبهوا باللؤلؤ المنثور تشبيهاً مقيّداً فيه المشبه بحال خاص لأنهم شبهوا به في حسن المنظر مع التفرق.