قوله تعالى : { فيها فاكهة } يعني : أنواع الفواكه ، قال ابن كيسان : ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى ، { والنخل ذات الأكمام } الأوعية التي يكون فيه الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم ينشق ، واحدها كم ، وكل ما ستر شيئا فهو كم وكمة ، ومنه كم القميص ، ويقال للقلنسوة كمة ، قال الضحاك : ذات الأكمام أي ذات الغلف . وقال الحسن : أكمامها : لفيفها . وقال ابن زيد : هو الطلع قبل أن ينفتق .
ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية ، فقال : { فِيهَا فَاكِهَةٌ } وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد ، من العنب والتين والرمان والتفاح ، وغير ذلك ، { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ } أي : ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم ، فتكون قوتا يؤكل ويدخر ، يتزود منه المقيم والمسافر ، وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه .
وقوله - سبحانه - : { فِيهَا فَاكِهَةٌ والنخل ذَاتُ الأكمام والحب ذُو العصف والريحان } ، بيان لبعض ما اشتملت عليه هذه الأرض من خيرات .
والفاكهة : اسم لما يأكله الإنسان من ثمار على سبيل التفكه والتلذذ ، لا على سبيل القوت الدائم ، مأخوذة من قولهم فكه فلان - كفرح - إذا تلذذت نفسه بالشىء . . . والأكمام : جمع كِمّ - بكسر الكاف - ، وهو الطلع قبل أن تخرج منه الثمار .
وقوله : { ذُو العصف } أى : ذو القشر الذى يكون على الحبن وسمى بذلك لأن الرياح تعصف به . أى : تطيره لخفته ، أو المراد به الورق بعد أن ييبس ومنه قوله - تعالى - : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } والريحان : هو النبات ذو الرائحة الطيبة ، وقيل هو الرزق .
أى : فى هذه الأرض التى تيعشون عليها أوجد الله - تعالى - الفاكهة التى تتلذذون بأكلها ، وأوجد لكم النخيل ذات الأوعية التى يكون فيها الثمر . .
وأوجد لكم الحب ، الذى تحيط به قشوره ، كما ترون ذلك بأعينكم ، فى سنابل القمح والشعير وغيرهما .
وأوجد لكم النبات الذى يمتاز بالرائحة الطيبة التى تبهج النفوس وتشرح الصدور ، فأنت ترى أنه - تعالى - قد ذكر فى هذه الآيات ألوانا من النعم ، فقد أوجد فى الأرض الفاكهة للتلذذ ، وأوجد الحب للغذاء ، وأوجد النباتات ذات الرائحة الطيبة .
قال القرطبى ما ملخصه : وقراءة العامة { والحب ذُو العصف والريحان } بالرفع فيها كلها ، عطفا على " فاكهة " أى : فيها فاكهة وفيها الحب ذو العصف ، وفيها الريحان . . .
وقرأ ابن عامر بالنصب فيها كلها عطفا على الأرض ، أو بإضمار فعل ، أى : وخلق الحبَّ ذَا العصف والريحانَ . أى : وخلق الريحان .
وقرأ حمزة والكسائى بجر { الريحان } عطفا على العطف . أى : فيها الحب ذو العصف والريحانِ ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان بمعنى الرزق ، فيكون كأنه قال : والحب ذو الرزق ، لأن العصف رزق للبهائم ، والريحان رزق للناس .
{ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي : مختلفة الألوان والطعوم والروائح ، { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ } أفرده بالذكر لشرفه ونفعه ، رطبا ويابسا . والأكمام - قال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : هي أوعية الطلع . وهكذا قال غير واحد من المفسرين ، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود ، فيكون بسرا ثم رطبا ، ثم ينضج ويتناهى يَنْعُه واستواؤه .
قال ابن أبي حاتم {[27845]} ذُكِرَ عن عمرو بن علي الصيرفي : حدثنا أبو قتيبة ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي ، عن الشعبي قال : كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب : أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك ، فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير ، تخرج مثل آذان الحمير ، ثم تشقق مثل اللؤلؤ ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد{[27846]} الأخضر ، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر ، ثم تَيْنَع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج أُكِل ، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادًا للمسافر ، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة . فكتب إليه عمر بن الخطاب{[27847]} من عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم ، إن رسلك قد صدقوك {[27848]} ، هذه الشجرة عندنا ، وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها ، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله ، فإن { مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 ، 60 ] {[27849]} .
وقيل : الأكمام رفاتها ، وهو : الليف الذي على عنق النخلة . وهو قول الحسن وقتادة .
وقوله : فِيها فاكِهَةٌ والنّخْلُ ذَاتُ الأكمَامِ يقول تعالى ذكره : في الأرض فاكهة ، والهاء والألف فيها من ذكر الأرض . والنّخْلُ ذَاتُ الأكمامِ والأكمام : جمع كمّ ، وهو ما تكممت فيه .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : عنى بذلك تكمم النخل في الليف . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن ، عن قوله : والنّخْلُ ذَاتُ الأكمامِ فقال : سَعَفة من ليف عُصِبَتْ بها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن ذَاتُ الأكمامِ أكمامها : ليفها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والنّخْلُ ذَاتُ الأكمامِ : الليف الذي يكون عليها .
وقال آخرون : يعني بالأكمام : الرّفَات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة وَالنّخْلُ ذَاتُ الأكمامِ قال : أكمامها رُفاتها .
وقال آخرون : بل معنى الكلام : والنخل ذات الطلع المتكمم في كمامه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : والنّخْلُ ذَاتُ الأكمامِ وقيل له : هو الطلع ، قال : نعم ، وهو في كم منه حتى ينفتق عنه قال : والحبّ أيضا في أكمام . وقرأ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أكمامِها .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف النخل بأنها ذات أكمام ، وهي متكممة في ليفها ، وطلعها متكمم في جُفّهِ ، ولم يخصص الله الخبر عنها بتكممها في ليفها ولا تكمم طلعها في جفه ، بل عمّ الخبر عنها بأنها ذات أكمام .
والصواب أن يقال : عني بذلك ذان ليف ، وهي به مُتَكَممة وذات طَلْع هو في جُفّه متكَمّم فيُعَمّم ، كما عَمّ جلّ ثناؤه .
وجملة { فيها فاكهة } إلى آخرها مبينة لجملة { والأرض وضعها للأنام } وتقديم { فيها } على المبتدأ للاهتمام بما تحتوي عليه الأرض .
ولما كان قوله : { وضعها للأنام } يتضمن وضعاً وعِلة لذلك الوضْع كانت الجملة المبينة له مشتملة على ما فيه العبرة والامتنان .
والفاكهة : اسم لما يؤكل تفكهاً لا قوتاً مشتقة من فَكِه كفرح ، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك ، قال تعالى : { فظلتم تفكَّهون } [ الواقعة : 65 ] لأن أكل ما يلذ للأكل وليس بضروري له إنما يكون في حال الانبساط .
والفاكهة : مثل الثمار والنُقول من لَوز وجوز وفستق .
وعطف على الفاكهة النخل وهو شجر التمر ، وهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم ، وهو يثمر أصنافاً من الفاكهة من رُطب وبُسر ومن تمر وهو فاكهة وقوتٌ .
ووصف النخل ب { ذات الأكمام } وصف للتحسين فهو اعتبار بأطوار ثمر النخل ، وامتنان بجماله وحسنه كقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] فامتنّ بمنافعها وبحسن منظرها .
و{ الأكمام } : جمع كِمّ بكسر الكاف وهو وعاء ثمر النخلة ويقال له : الكُفُرَّى ، فليست الأكمام مما ينتفع به فتعينّ أن ذكرها مع النخل للتحسين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فيها} يعني في الأرض {فاكهة والنخل ذات الأكمام} يعني ذات الأجواف...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"والنّخْلُ ذَاتُ" الأكمامِ والأكمام: جمع كمّ، وهو ما تكممت فيه. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: عنى بذلك تكمم النخل في الليف...
وقال آخرون: يعني بالأكمام: الرّفَات...
وقال آخرون: بل معنى الكلام: والنخل ذات الطلع المتكمم في كمامه...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف النخل بأنها ذات أكمام، وهي متكممة في ليفها، وطلعها متكمم في جُفّهِ، ولم يخصص الله الخبر عنها بتكممها في ليفها ولا تكمم طلعها في جفه، بل عمّ الخبر عنها بأنها ذات أكمام. والصواب أن يقال: عني بذلك ذات ليف، وهي به مُتَكَممة وذات طَلْع هو في جُفّه متكَمّم فيُعَمّم، كما عَمّ جلّ ثناؤه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فيما فاكهة والنخل ذات الأكمام} يذكرهم نعمه التي أنشأها لهم في الأرض من الفواكه وأنواع الثمار والحبوب التي جعلها رزقا لهم. وقوله تعالى: {ذات الأكمام} أي ذات الغلف والأغطية...
{فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام} إشارة إلى الأشجار والفاكهة ما تطيب به النفس، وهي فاعلة إما على طريقة: {عيشة راضية} أي ذات رضى يرضى بها كل أحد، وإما على تسمية الآلة بالفاعل يقال: راوية للقربة التي يروى بها العطشان، وفيه معنى المبالغة كالراحلة لما يرحل عليه، ثم صار اسما لبعض الثمار وضعت أولا من غير اشتقاق، والتنكير للتكثير، أي كثيرة كما يقال لفلان مال أي عظيم، وقد ذكرنا وجه دلالة التنكير على التعظيم وهو أن القائل: كأنه يشير إلى أنه عظيم لا يحيط به معرفة كل أحد فتنكيره إشارة إلى أنه خارج عن أن يعرف كنهه. وقوله تعالى: {والنخل ذات الأكمام} إشارة إلى النوع الآخر من الأشجار، لأن الأشجار المثمرة أفضل الأشجار...
الأول: ما الحكمة في تقديم الفاكهة على القوت؟ نقول: هو باب الابتداء بالأدنى والارتقاء إلى الأعلى، والفاكهة في النفع دون النخل الذي منه القوت، والتفكه وهو دون الحب الذي عليه المدار في سائر المواضع، وبه يتغذى الأنام في جميع البلاد، فبدأ بالفاكهة ثم ذكر النخل ثم ذكر الحب الذي هو أتم نعمة لموافقته مزاج الإنسان، ولهذا خلقه الله في سائر البلاد وخصص النخل بالبلاد الحارة. البحث الثاني: ما الحكمة في تنكير الفاكهة وتعريف النخل؟ وجوابه من وجوه؛ (أحدها) أن القوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان فهو أعرف والفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص...
{ذات الأكمام} في ذكرها فائدة لأنها إشارة إلى أنواع النعم، وأما على الوجه الثاني فما فائدة ذكرها؟ نقول: الإشارة إلى سهولة جمعها والانتفاع بها {ذات الأكمام} أي يكون في كم شيء كثير إذا أخذ عنقود واحد منه كفى رجلا واثنين كعناقيد العنب، فانظر إليها فلو كان العنب حباتها في الأشجار متفرقة كالجميز والزعرور لم يمكن جمعه بالهز متى أريد جمعه، فخلقه الله تعالى عناقيد مجتمعة، كذلك الرطب فكونها {ذات الأكمام} من جملة إتمام الإنعام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فيها فاكهة} أي ضروب منها عظيمة جداً يدرك الإنسان بما له من البيان تباينها في الصور والألوان، والطعوم والمنافع -وغير ذلك من بديع الشأن ولما كان المراد بتنكيرها تعظيمها، نبه عليه بتعريف نوع منها، ونوه به لأن فيه مع التفكه التقوت، وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأول فقال: {والنخل} ودل على تمام القدرة بقوله:. {ذات} أي صاحبة {الأكمام} وفيه تذكير بثمر الجنة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {فيها فاكهة} إلى آخرها مبينة لجملة {والأرض وضعها للأنام} وتقديم {فيها} على المبتدأ للاهتمام بما تحتوي عليه الأرض. ولما كان قوله: {وضعها للأنام} يتضمن وضعاً وعِلة لذلك الوضْع كانت الجملة المبينة له مشتملة على ما فيه العبرة والامتنان. والفاكهة: اسم لما يؤكل تفكهاً لا قوتاً مشتقة من فَكِه كفرح، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك، قال تعالى: {فظلتم تفكَّهون} [الواقعة: 65] لأن أكل ما يلذ للأكل وليس بضروري له إنما يكون في حال الانبساط. والفاكهة: مثل الثمار والنُقول من لَوز وجوز وفستق.