{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } لله ، بفعل أوامره وترك نواهيه ، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر .
{ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي : في جنات النعيم ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، من الأشجار اليانعة ، والأنهار الجارية ، والقصور الرفيعة ، والمنازل الأنيقة ، والمآكل والمشارب اللذيذة ، والحور الحسان ، والروضات البهية في الجنان ، ورضوان الملك الديان ، والفوز بقربه ، ولهذا قال :
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بتلك البشارة العظيمة للمتقين فقال : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } .
أى : إن المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل محارم الله - تعالى - كائنين فى جنات عاليات المقدار ، وفى { نَهَرٍ } أى : وفى سعة من العيش ، ومن مظاهر ذلك أن الأنهار الواسعة تجرى من تحت مساكنهم ، فالمراد بالنهر جنسه .
وعند هذا الحد من العرض والتعقيب ، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين . ويعرض صورة أخرى في ظل وادع أمين . صورة المتقين :
( إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . .
ذلك بينما المجرمون في ضلال وسعر . يسحبون في النار على وجوههم في مهانة . ويلذعون بالتأنيب كما يلذعون بالسعير : ( ذوقوا مس سقر ) . .
وهي صورة للنعيم بطرفيه : ( في جنات ونهر ) . ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) .
نعيم الحس والجوارح في تعبير جامع شامل : ( في جنات ونهر )يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب . . وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة( نهر )بفتح الهاء . بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير !
وقوله : إنّ المُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ ونَهَرٍ يقول تعالى ذكره : إن الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في بساتين يوم القيامة ، وأنهار ، ووحد النهر في اللفظ ، ومعناه الجمع ، كما وحد الدّبر ، ومعناه الإدبار في قوله : يُوَلّونَ الدّبُرَ وقد قيل : إن معنى ذلك : إن المتقين في سعة يوم القيامة وضياء ، فوجّهوا معنى قوله : ونَهَر إلى معنى النهار . وزعم الفرّاء أنه سمع بعض العرب ينشد :
إنْ تَكُ لَيْلِيّا فإنّي نَهِرْ *** مَتى أتى الصّبْحُ فَلا أنْتَظِر
وقوله : «نهر » على هذا التأويل مصدر من قولهم : نهرت أنهر نهرا . وعنى بقوله : «فإني نهر » : أي إني لصاحب نهار : أي لست بصاحب ليلة .
استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطرِ على إرادة أنه معلوم ومجازىً عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله : { إن المجرمين في ضلال وسعر } [ القمر : 47 ] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والعكس .
وافتتاح هذا الخبر بحرف { إن } للاهتمام به .
و { في } من قوله : { في جنات } للظرفية المجازية التي هي بمعنى التلبس القوي كتلبس المظروف بالظرف ، والمراد في نعيم جنات ونهر فإن للجنات والأنهار لذات متعارفة من اللهو والأُنس والمحادثة ، واجتناء الفواكه ، ورؤية جَرَيَاننِ الجداول وخرير الماء ، وأصوات الطيور ، وألوان السوابح .
وبهذا الاعتبار عطف { نهر } على { جنات } إذ ليس المراد الإخبار بأنهم ساكنون جناتتٍ فإن ذلك يغني عنه قوله بعد : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ، ولا أنهم منغمسون في أنهار إذ لم يكن ذلك مما يقصده السامعون .
ونهَرَ : بفتحتين لغة في نهْر بفتح فسكون . والمراد به اسم الجنس الصادق بالمتعدد لقوله تعالى : { من تحتهم الأنهار } [ الأعراف : 43 ] ،
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن المتقين في جنات} يعني البساتين {ونهر} يعني الأنهار الجارية، ويقال: السعة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إنّ المُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ ونَهَرٍ "يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في بساتين يوم القيامة، وأنهار، ووحد النهر في اللفظ، ومعناه الجمع... وقد قيل: إن معنى ذلك: إن المتقين في سعة يوم القيامة وضياء، فوجّهوا معنى قوله: "ونَهَر" إلى معنى النهار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختُلف في تأويل قوله تعالى: {ونَهَرٍ}. قيل: {ونَهَرٍ} من النهار، أي هم في ضياء ونور وسرور، وهو قول الأصمّ. وقال الفرّاء: النهر السَّعة؛ يقال: أنهرت الطعنة، أي وسّعتها. وقال أهل التأويل: أي الأنهار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن المتقين} أي العريقين في وصف الخوف من الله تعالى الذي أداهم إلى أن لا يفعلوا شيئاً إلا بدليل. {ونهر} وأفرده لأن التعبير ب "في " مفهم لعمومهم به عموم ما كأنه ظرف وهم مظروفون له، ولكثرة الأنهار وعظمها حتى أنها لقرب بعضها من بعض واتصال منابعها وتهيئ جميع الأرض لجري الأنهار منها كأنها شيء واحد، وما وعد به المتقون من النعيم في تلك الدار فرقائقه معجلة لهم في هذه الدار، فلهم اليوم جنات العلوم وأنهار المعارف، وفي الآخرة الأنهار الجارية والرياض والأشجار والقصور والزخارف، وهو يصلح مع ذلك لأن يكون مما منه النهار فيكون المعنى: أنهم في ضياء وسعة لا يزايلونه أصلاً بضد ما عليه المجرم من العمى الناشئ عن الظلام، ولمثل هذه الأغراض أفرد مع إرادة الجنس لا للفاصلة فقط.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطرِ على إرادة أنه معلوم ومجازىً عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والعكس. وافتتاح هذا الخبر بحرف {إن} للاهتمام به.