مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فِيهَا فَٰكِهَةٞ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ} (11)

وقوله تعالى : { فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام } إشارة إلى الأشجار ، وقوله : { والحب ذو العصف } إشارة إلى النبات الذي ليس بشجر والفاكهة ما تطيب به النفس ، وهي فاعلة إما على طريقة : { عيشة راضية } أي ذات رضى يرضى بها كل أحد ، وإما على تسمية الآلة بالفاعل يقال : راوية للقربة التي يروى بها العطشان ، وفيه معنى المبالغة كالراحلة لما يرحل عليه ، ثم صار اسما لبعض الثمار وضعت أولا من غير اشتقاق ، والتنكير للتكثير ، أي كثيرة كما يقال لفلان مال أي عظيم ، وقد ذكرنا وجه دلالة التنكير على التعظيم وهو أن القائل : كأنه يشير إلى أنه عظيم لا يحيط به معرفة كل أحد فتنكيره إشارة إلى أنه خارج عن أن يعرف كنهه .

وقوله تعالى : { والنخل ذات الأكمام } إشارة إلى النوع الآخر من الأشجار ، لأن الأشجار المثمرة أفضل الأشجار وهي منقسمة إلى أشجار ثمار هي فواكه لا يقتات بها وإلى أشجار ثمار هي قوت وقد يتفكه بها ، كما أن الفاكهة قد يقتات بها ، فإن الجائع إذا لم يجد غير الفواكه يتقوت بها ويأكل غير متفكه بها ، وفيه مباحث :

الأول : ما الحكمة في تقديم الفاكهة على القوت ؟ نقول : هو باب الابتداء بالأدنى والارتقاء إلى الأعلى ، والفاكهة في النفع دون النخل الذي منه القوت ، والتفكه وهو دون الحب الذي عليه المدار في سائر المواضع ، وبه يتغذى الأنام في جميع البلاد ، فبدأ بالفاكهة ثم ذكر النخل ثم ذكر الحب الذي هو أتم نعمة لموافقته مزاج الإنسان ، ولهذا خلقه الله في سائر البلاد وخصص النخل بالبلاد الحارة .

البحث الثاني : ما الحكمة في تنكير الفاكهة وتعريف النخل ؟ وجوابه من وجوه ( أحدها ) أن القوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان فهو أعرف والفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص ( وثانيها ) هو أن الفاكهة على ما بينا ما يتفكه به وتطيب به النفس وذلك عند كل أحد بحسب كل وقت شيء ، فمن غلب عليه حرارة وعطش ، يريد التفكه بالحامض وأمثاله ، ومن الناس من يريد التفكه بالحلو وأمثاله ، فالفاكهة غير متعينة فنكرها والنخل والحب معتادان معلومان فعرفهما ( وثالثها ) النخل وحدها نعمة عظيمة تعلقت بها منافع كثيرة ، وأما الفاكهة فنوع منها كالخوخ والإجاص مثلا ليس فيه عظيم النعمة كما في النخل ، فقال : { فاكهة } بالتنكير ليدل على الكثرة وقد صرح بالكثرة في مواضع أخر فقال : { يدعون فيها بفاكهة كثيرة } وقال : { وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة } ، فالفاكهة ذكرها الله تعالى ووصفها بالكثرة صريحا وذكرها منكرة ، لتحمل على أنها موصوفة بالكثرة اللائقة بالنعمة في النوع الواحد منها بخلاف النخل .

البحث الثالث : ما الحكمة في ذكر الفاكهة باسمها لا باسم أشجارها ، وذكر النخل باسمها لا باسم ثمرها ؟ نقول : قد تقدم بيانه في سورة ( يس ) حيث قال تعالى : { من نخيل وأعناب } وهو أن شجرة العنب ، وهي الكرم بالنسبة إلى ثمرتها وهي العنب حقيرة ، وشجرة النخل بالنسبة إلى ثمرتها عظيمة ، وفيها من الفوائد الكثيرة على ما عرف من اتخاذ الظروف منها والانتفاع بجمارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك ، فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة ، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى الغير من الأشجار ، فذكر النخل باسمه وذكر الفاكهة دون أشجارها ، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها .

البحث الرابع : ما معنى : { ذات الأكمام } ؟ نقول : فيه وجهان : ( أحدهما ) الأكمام كل ما يغطي جمع كم بضم الكاف ، ويدخل فيه لحاؤها وليفها ونواها والكل منتفع به ، كما أن النخل منتفع بها وأغصانها وقلبها الذي هو الجمار ( ثانيهما ) الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الطلع فإنه يكون أولا في وعاء فينشق ويخرج منه الطلع ، فإن قيل على الوجه الأول : { ذات الأكمام } في ذكرها فائدة لأنها إشارة إلى أنواع النعم ، وأما على الوجه الثاني فما فائدة ذكرها ؟ نقول : الإشارة إلى سهولة جمعها والانتفاع بها فإن النخلة شجرة عظيمة لا يمكن هزها لتسقط منها الثمرة فلا بد من قطف الشجرة فلو كان مثل الجميز الذي يقال : إنه يخرج من الشجرة متفرقا واحدة واحدة لصعب قطافها فقال : { ذات الأكمام } أي يكون في كم شيء كثير إذا أخذ عنقود واحد منه كفى رجلا واثنين كعناقيد العنب ، فانظر إليها فلو كان العنب حباتها في الأشجار متفرقة كالجميز والزعرور لم يمكن جمعه بالهز متى أريد جمعه ، فخلقه الله تعالى عناقيد مجتمعة ، كذلك الرطب فكونها { ذات الأكمام } من جملة إتمام الإنعام .