وقوله - تعالى - : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } بيان لنعمتين أخريين من نعمه - سبحانه - . والمراد بالإنسان : جنسه ، والمراد بالبيان : الفهم والنطق والإفصاح عما يريد الإفصاح عنه بالكلام الذى أداته اللسان .
أى خلق - سبحانه - بقدرته الإنسان على أجمل صورة ، وأحسن تقويم ، ومكنه من الإفصاح عما فى نفسه عن طريق المنطق السليم ، والقول الواضح ، كما مكنه من فهم كلام غيره له ، فتميز بذلك من الأجناس الأخرى ، وصار أهلا لحمل الأمانة التى عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، وأصبح مستعدات لتلقى العلوم والخلافة فى الأرض .
ورحم الله - تعالى - صاحب الكشاف ، فقد صور هذه المعانى بأسلوبه الرصين فقال : عدد الله - عز وجل - آلاءه فقدم ما هو أسبق قدما من ضربو آلائه ، وأصناف نعمائه ، وهى نعمة الدين ، وقدم من نعمة الدين ما هو فى أعلى مراتبها ، وأقصى مراقبها ، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحى الله رتبة ، وأعلاه منزلة ، وأحسنه فى أبواب الدين أثرا ، وهو سنام الكتب السماوية ، ومصداقها ، والعيار عليها .
وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ، ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، وليحيط علما بوحيه ، وكتبه ، وما خلق الإنسان من أجله . . ثم ذكر ما تميز به الإنسان عن سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عما فى الضمير .
ولفظ { الرحمن } مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف ، لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذلك ، كثرك بعد قلة . . . فما تنكر من إحسانه .
ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان . فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان .
( خلق الإنسان علمه البيان ) . .
وندع - مؤقتا - خلق الإنسان ابتداء ، فسيأتي ذكره في مكانه من السورة بعد قليل . إذ المقصود من ذكره هنا هو ما تلاه من تعليمه البيان .
إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين ، ويتفاهم ، ويتجاوب مع الآخرين . . فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة ، وضخامة هذه الخارقة ، فيردنا القرآن إليها ، ويوقظنا لتدبرها ، في مواضع شتى .
فما الإنسان ? ما أصله ? كيف يبدأ ? وكيف يعلم البيان ?
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم . خلية ساذجة صغيرة ، ضئيلة ، مهينة . ترى بالمجهر ، ولا تكاد تبين . وهي لا تبين ! ! !
ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين . الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة . . عظمية . وغضروفية . وعضلية . وعصبية . وجلدية . . ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة : السمع . البصر . الذوق . الشم . اللمس . ثم . . ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم : الإدراك والبيان ، والشعور والإلهام . . كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة ، التي لا تكاد تبين ، والتي لا تبين !
كيف ? ومن أين ? من الرحمن ، وبصنع الرحمن .
فلننظر كيف يكون البيان ? : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) . .
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب . . اللسان والشفتان والفك والأسنان . والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان . . إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان . وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة ، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب . ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه . ولا ندري شيئا عن ماهيته وحقيقته . بل لا نكاد ندري شيئا عن عمله وطريقته !
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد ?
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة . مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن .
إنها تبدأ شعورا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين . هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية . . المخ . . ويقال : إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب . واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه . وهنا تطرد الرئة قدرا من الهواء المختزن فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان ، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام ! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما يريد العقل . . عاليا أو خافتا . سريعا أو بطيئا . خشنا أو ناعما . ضخما أو رفيعا . . إلى آخر أشكال الصوت وصفاته . ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان ، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة . وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين ، يتم فيه الضغط المعين ، ليصوت الحرف بجرس معين . .
وذلك كله لفظ واحد . . ووراءه العبارة . والموضوع . والفكرة . والمشاعر السابقة واللاحقة . وكل منها عالم عجيب غريب ، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب ، بصنعة الرحمن ، وفضل الرحمن .
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه : أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه ، فقال : { الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } قال الحسن : يعني : النطق{[27842]} . وقال الضحاك ، وقتادة ، وغيرهما : يعني الخير والشر . وقول الحسن ها هنا أحسن وأقوى ؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن ، وهو أداء تلاوته ، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين ، على اختلاف مخارجها وأنواعها .
وقوله : خَلَقَ الإنْسانَ يقول تعالى ذكره : خلق آدم وهو الإنسان في قول بعضهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة خَلَقَ الإنْسانَ قال : الإنسان : آدم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة خَلَقَ الإنْسانَ قال : الإنسان : آدم صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل عنى بذلك الناس جميعا ، وإنما وحد في اللفظ لأدائه عن جنسه ، كما قيل : إن الإنسان لفي خُسر والقولان كلاهما غير بعيدين من الصواب لاحتمال ظاهر الكلام إياهما .
خبر ثان ، والمراد بالإِنسان جنس الإِنسان وهذا تمهيد للخبر الآتي وهو { علمه البيان } [ الرحمن : 4 ] .
وهذه قضية لا ينازعون فيها ولكنهم لما أعرضوا عن موجَبها وهو إفرادُ الله تعالى بالعبادة ، سيق لهم الخبر بها على أسلوب التعديد بدون عطف كالذي يَعُد للمخاطب مواقع أخطائه وغفلته ، وهذا تبكيت ثانٍ .
ففي خلق الإِنسان دلالتان : أولاهما : الدلالة على تفرد الله تعالى بالإِلهية ، وثانيتهما : الدلالة على نعمة الله على الإِنسان .
والخلق : نعمة عظيمة لأن فيها تشريفاً للمخلوق بإخراجه من غياهب العدم إلى مَبْرَز الوجود في الأعيان ، وقُدّم خلق الإِنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفاً من مناسبة إردافه بتعليم القرآن .
ومجيء المسند فعلاً بعد المسند إليه يفيد تقوّي الحكم . ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"خَلَقَ الإنْسانَ "يقول تعالى ذكره: خلق آدم وهو الإنسان في قول بعضهم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك الناس جميعا، وإنما وحد في اللفظ لأدائه عن جنسه، كما قيل: "إن الإنسان لفي خُسر" والقولان كلاهما غير بعيدين من الصواب لاحتمال ظاهر الكلام إياهما...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه إنه الذي اخترع الإنسان وأخرجه من العدم إلى الوجود...
ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق، حيث قال هناك: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} ثم قال: {وربك الأكرم الذي علم بالقلم} فقدم الخلق على التعليم؟ نقول: في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله: {علمه البيان} بعد قوله: {خلق الإنسان}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلم، ذكره بعد في قوله: {خلق الإنسان}، ليعلم أنه المقصود بالتعليم. ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن، كان كالسبب في خلقه تقدّم على خلقه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كأنه قيل: كيف علمه وهو صفة من صفاته ولمن علمه، قال مستأنفاً أو معللاً: {خلق الإنسان} أي قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات وأصله منها ثم عن سائر الناميات ثم عن غيره من الحيوانات، وجعله أصنافاً، وفصل بين كل قوم بلسانهم عمن عداهم وخلقه لهم دليل على خلقه لكل شيء موجود إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] والإنسان وإن كان اسم جنس لكن أحقهم بالإرادة بهذا أولهم وهو آدم عليه السلام، وإرادته -كما قال ابن عباس رضي الله عنهما- لا تمنع إرادة الجنس من حيث هو...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ثم امتنّ بعد هذه النعمة بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور، ومرجع جميع الأشياء، فقال: {خَلَقَ الإنسان}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان. فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أولاهما: الدلالة على تفرد الله تعالى بالإِلهية،
وثانيتهما: الدلالة على نعمة الله على الإِنسان.
والخلق: نعمة عظيمة لأن فيها تشريفاً للمخلوق بإخراجه من غياهب العدم إلى مَبْرَز الوجود في الأعيان، وقُدّم خلق الإِنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفاً من مناسبة إردافه بتعليم القرآن. ومجيء المسند فعلاً بعد المسند إليه يفيد تقوّي الحكم. ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره.
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
أوجده من العدم، فالإنسان كان معدوماً قبل وجوده، وقبل خلقه...
وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان، وإلا فمن المعلوم أن خلق الإنسان سابق على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظم منة من الله -عز وجل- على العبد قدمه على خلقه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذُكرت قبل (خلق الإنسان) و (علّمه البيان) في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلا إلى مسألة خلق الإنسان، ومن ثمّ نعمة تعليم البيان، ثمّ نعمة تعليم القرآن، وذلك استنادا للترتيب الطبيعي، إلاّ أنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافاً للترتيب المفترض. وقد جاءت هذه الآية جواباً لمشركي العرب حينما طلب منهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) السجود للرحمن، فسألوه «وما الرحمن»؟ (الفرقان ـ) فأجابهم بتوضيح ذلك حيث يقول سبحانه: «الرحمن هو الذي علّم القرآن وخلق الإنسان وعلّمه البيان». وعلى كلّ حال فإنّ لاسم «الرحمن» أوسع المفاهيم بين أسماء البارئ عزّ وجلّ بعد اسم الجلالة (الله)...
وهنا يطرح التساؤل التالي: من الذي علّمه الله سبحانه القرآن الكريم. ذكر المفسّرون في ذلك تفسيرات عديدة، فبعضهم قال: إنّ الله علّم القرآن لجبرئيل والملائكة، وقال آخرون: إنّ الله سبحانه علّمه للرسول، وذكر ثالث: أنّه عُلِّمَ للإنس والجنّ. ولكون هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهيّة للإنس والجنّ ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة، وذلك بقوله: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) لهذا فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب، أي أنّ الله علّم القرآن للإنس والجنّ بواسطة نبيّه الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهمّ نعمة في الترتيب المذكور ويقول: (خَلَقَ الإنسان). من الطبيعي أنّ المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدم (عليه السلام) فقط، حيث سيتحدّث عنه سبحانه في الآيات اللاحقة بصورة مستقلّة، كما أنّه ليس المقصود بذلك النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع العلم أنّ الرّسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أفضل وأعلى مصداق للإنسان. وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل آخر على عمومية كلمة الإنسان، وبناءً على هذا فإنّ التفاسير الأخرى التي ذكرت لم تكن صحيحة. والحقيقة أنّ خلق الإنسان هذا الكائن الذي تتجمّع فيه كلّ عجائب الوجود، هذا الموجود الذي هو خلاصة الموجودات الأخرى، هذا العالم الصغير الذي اندرج فيه العالم الكبير، لهو نعمة منقطعة النظير حيث إنّ كلّ بعد من أبعاد وجوده المختلفة نعمة كبيرة. وبالرغم من أنّ بداية الإنسان ليست أكثر من نطفة لا قيمة لها، بل الأصحّ أنّ بدايته عبارة عن موجود مجهري يسبح في نطفة لا وزن لها، إلاّ أنّه في ظلّ الرعاية الإلهيّة يسير في مراحل التكامل بصورة يرتقي فيها إلى مقام أشرف موجود في عالم الخلق...