ثم بين عذابهم فقال :{ إنا أرسلنا عليهم صيحةً واحدة } قال عطاء : يريد صيحة جبريل عليه السلام ، { فكانوا كهشيم المحتظر } قال ابن عباس : هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع ، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم . وقال ابن زيد : هو الشجر البالي الذي تهشم حتى ذرته الريح . والمعنى : أنهم صاروا كيبس الشجر إذا تحطم ، والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس : هشيماً . وقال قتادة : كالعظام النخرة المحترقة . وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحائط .
ثم فصل - سبحانه - هذا العقاب فقال : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر }
والهشيم : ما تهشم وتفتت وتكسر من الشجر اليابس ، مأخوذ من الهشم بمعنى الكسر للشىء اليابس ، أو الأجوف .
والمحتظر : هو الذى يعمل الحضيرة التى تكون مسكنا للحيوانات .
أى : إنا أرسلنا عليهم - بقدرتنا ومشيئتنا - صيحة واحدة صاحها بهم جبريل - عليه السلام - فصاروا بعدها كغصون الأشجار اليابسة المكسرة ، يجمعها إنسان ليعمل منها حضيرة لسكنى حيواناته .
والمقصود بهذا التشبيه ، بيان عظم ما أصابهم من عقاب مبين ، جعلهم ، كالأعواد الجافة حين تتحطم وتتكسر ويجمعها الجامع ليصنع منها حضيرته ، أو لتكون تحت أرجل مواشيه .
وهذا العذاب عبر عنه هنا وفى سورة هود بالصيحة فقال :
{ وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة . . . } وعبر عنه فى سورة الأعراف بالرجفة فقال : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة . . } وعبر عنه فى سورة فصلت بالصاعقة فقال : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وعبر عنه فى سورة الحاقة بالطاغية ، فقال : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية . . } ولا تعارض بين هذه التعبيرات لأنها متقاربة فى معناها ، ويكمل بعضها بعضا ، وهى تدل على شدة ما أصابهم من عذاب .
فكأنه - سبحانه - يقول : لقد نزل بهؤلاء المكذبين الصحية التى زلزلت كيانهم ، فصعقتهم وأبادتهم ، وجعلتهم كعيدان الشجر اليابس . .
( إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ) . .
ولا يفصل القرآن هذه الصيحة . وإن كانت في موضع آخر في سورة " فصلت " توصف بأنها صاعقة : ( فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) . . وقد تكون كلمة صاعقة وصفا للصيحة . فهي صيحة صاعقة . وقد تكون تعبيرا عن حقيقتها . فتكون الصيحة والصاعقة شيئا واحدا . وقد تكون الصيحة هي صوت الصاعقة . أو تكون الصاعقة أثرا من آثار الصيحة التي لا ندري من صاحبها .
وعلى أية حال فقد أرسلت على القوم صيحة واحدة ، ففعلت بهم ما فعلت ، مما جعلهم ( كهشيم المحتظر ) . . والمحتظر صانع الحظيرة . وهو يصنعها من أعواد جافة . فهم صاروا كالأعواد الجافة حين تيبس وتتحطم وتصبح هشيما . أو أن المحتظر يجمع لماشيته هشيما تأكله من الأعواد الجافة والعشب الناشف . وقد صار القوم كهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة !
وهو مشهد مفجع مفزع . يعرض ردا على التعالي والتكبر . فإذا المتعالون المتكبرون هشيم . وهشيم مهين . كهشيم المحتظر !
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } أي : فبادوا عن آخرهم لم تبق {[27786]} منهم باقية ، وخَمَدوا وهَمَدوا كما يهمد يَبِيس الزرع والنبات . قاله غير واحد من المفسرين . والمحتظر - قال السدي - : هو المرعى بالصحراء حين يبيس وتحرق ونسفته الريح
وقال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حِظَارًا على الإبل والمواشي من يَبِيس الشوك ، فهو المراد من قوله : { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } .
وقال سعيد بن جُبَير : { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } : هو التراب المتناثر من الحائط . وهذا قول غريب ، والأول أقوى ، والله أعلم .
وقوله : إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً وقد بيّنا فيما مضى أمر الصيحة ، وكيف أتتهم ، وذكرنا ما روي في ذلك من الاَثار ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : فكانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِر يقول تعالى ذكره فكانوا بهلاكهم بالصيحة بعد نضارتهم أحياء ، وحسنهم قبل بوارهم كيَبِس الشجر الذي حظرته بحظير حظرته بعد حُسن نباته ، وخُضرة ورقه قبل يُبسه .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ فقال بعضهم : عنى بذلك : العظام المحترقة ، وكأنهم وجّهوا معناه إلى أنه مَثّلَ هؤلاء القوم بعد هلاكهم وبلائهم بالشيء الذي أحرقه محرق في حظيرته . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كُدينة ، قال : حدثنا قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ قال : كالعظام المحترقة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَكانُوا كَهَشِيم المُحْتَظِرِ قال : المحترق . ولا بيان عندنا في هذا الخبر عن ابن عباس ، كيف كانت قراءته ذلك ، إلا أنا وجّهنا معنى قوله هذا على النحو الذي جاءنا من تأويله قوله : كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ إلى أنه كان يقرأ ذلك كنحو قراءة الأمصار ، وقد يحتمل تأويله ذلك كذلك أن يكون قراءته كانت بفتح الظاء من المحتظر ، على أن المحتظر نعت للهشيم ، أضيف إلى نعته ، كما قيل : إنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ وقد ذُكر عن الحسن وقتادة أنهما كانا يقرآن ذلك كذلك ، ويتأوّلانه هذا التأويل الذي ذكرناه عن ابن عباس .
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثني أبي ، عن الحسن ، قال : كان قتادة يقرأ كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ يقول : المحترق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَكأنّهُ كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ يقول : كهشيم محترق .
وقال آخرون : بل عنى بذلك التراب . الذي يتناثر من الحائط . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ قال : التراب الذي يتناثر من الحائط .
وقال آخرون : بل هو حظيرة الراعي للغنم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق وأسنده ، قال المُحْتَظِرِ حظيرة الراعي للغنم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كَهَشِيم المُحْتَظِرِ المحتظر : الحظرة تتخذ للغنم فتيبس ، فتصير كهشيم المحتظر ، قال : هو الشوك الذي تحظر به العرب حول مواشيها من السباع والهشيم : يابس الشجر الذي فيه شوك ذلك الهشيم .
وقال آخرون : بل عني به هشيم الخيمة ، وهو ما تكسّر من خشبها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن مجاهد ، في قوله : كَهَشِيم المُحْتَظِرِ قال : الرجل يهشمِ الخيمة .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ الهشيم : الخيمة .
وقال آخرون : بل هو الورق الذي يتناثر من خشب الحطب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان كَهَشِيمِ قال : الهشيم : إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط . والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما .
جواب قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } [ القمر : 30 ] فهو مثل موقع قوله : { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } [ القمر : 19 ] في قصة عاد كما تقدم .
والصيحة : الصاعقة وهي المعبر عنها بالطاغية في سورة الحاقة ، وفي سورة الأعراف بالرجفة ، وهي صاعقة عظيمة خارقة للعادة أهلكتهم ، ولذلك وصفت ب { واحدة } للدلالة على أنها خارقة للعادة إذ أتت على قبيلة كاملة وهم أصحاب الحِجْر .
و { كانوا } بمعنى : صاروا ، وتجيء ( كان ) بمعنى ( صار ) حين يراد بها كون متجدد لم يكن من قبل .
والهشيم : ما يَبِسَ وجفّ من الكلأ ومن الشجر ، وهو مشتق من الهشْم وهو الكَسْر لأن اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار . والمراد هنا شيء خاص منه وهو ما جفّ من أغصَان العضاة والشوك وعظيم الكلأ كانوا يتخذون منه حظائر لحفظ أغنامهم من الريح والعادية ولذلك أضيف الهشيم إلى المْحتظِر . وهو بكسر الظاء المعجمة : الذي يَعمل الحَظيرة ويَبْنيهَا ، وذلك بأنه يجمع الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجاً لحظيرته فالمشبه به هو الهشيم المجموع في الأرض قبل أن يُسيّج ولذلك قال : { كهشيم المحتظر } ولم يقل : كهشيم الحظيرة ، لأن المقصود بالتشبيه حالته قبل أن يرصف ويصفف وقبل أن تتخذ منه الحظيرة .
والمحتظر : مفتعل من الحظيرة ، أي متكلف عمل الحظيرة .
والقول في تعدية { أرسلنا } إلى ضمير { ثمود } [ القمر : 23 ] كالقول في { أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } [ القمر : 19 ] .