السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلۡمُحۡتَظِرِ} (31)

وبينه بقوله تعالى : { إنا } أي : بمالنا من العظمة { أرسلنا } أي : إرسالاً عظيماً { عليهم صيحة } وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابه بقوله تعالى : { واحدة } صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن لهم بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة ، كما قال تعالى { فكانوا كهشيم المحتظر } وهو الذي يجعل لغنمه حظيرة من يابس الشجر والشوك يحفظهنّ فيها من الذئاب والسباع ، وما يسقط من ذلك فما داسته هو الهشيم والهشيم المهشوم المكسور ، ومنه سمي هاشم لهشمه الثريد في الجفان غير أنّ الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس قال المفسرون كانوا كالخشب المتكسر الذي يخرج من الحظائر ، بدليل قوله تعالى : { هشيماً تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف ، وتشبيههم بالهشيم : إمّا لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان ، أو لانضمام بعضهم إلى بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحطب يضعه شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه . قال ابن عادل : ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم ، أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد ، كقوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] ، وقوله تعالى : { فكانوا لجهنم حطبا } [ الجن : 15 ] .

تنبيهات : أحدها : أنه تعالى ذكر { فكيف كان عذابي ونذر } في ثلاثة مواضع ؛ ذكرها في حكاية نوح عليه السلام بعد بيان العذاب ؛ وذكرها هاهنا قبل بيان العذاب ؛ وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه ، وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب فللبيان ، كقول العارف حكاية لغير العارف : هل تعلم كيف كان أمر فلان ؟ وغرضه أن يقول : أخبرني عنه وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم ؛ كقول فلان : أي ضرب وأيما ضرب ، ويقول : ضربته وكيف ضربته ؟ أي قوياً وفي حكاية عاد ذكرها مرتين : للبيان والاستفهام .

ثانيها : أنه تعالى ذكر في حكاية نوح عليه السلام الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان ؛ لأنّ عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عمّ العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصاً بهم .

ثالثها : أنه تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص ، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه ، لأنّ حال صالح عليه السلام كان أتمّ مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أتى بأمر عجيب أرضى ، وكان أعجب مما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأنّ عيسى عليه السلام أحيى الميت ، لكن الميت كان محلا للحياة ، فقامت الحياة بإذن الله تعالى في محل كان قابلاً لها ، وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً ، فأثبت الله تعالى له في الخشب الحياة بإذنه سبحانه ، لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو ، فأشبه الحيوان في النمّو ، وصالح عليه السلام كان الظاهر في بدء خروج الناقة من الحجر ، والحجر جماد ليس محلاً للحياة ، ولا محلاً للنمو ، ونبينا صلى الله عليه وسلم أتى بأعجب من الكل ، وهو المتصرّف في الجرم السماوي الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء ، وأمّا الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد تقبل كل واحدة منها صورة الأخرى ، والسماويات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتمّ وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم من معجزة سائر الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم .