قوله تعالى : { أئنكم } ، قرأ أهل المدينة وحفص ( إنكم ) بكسر الألف على الخبر ، وقرأ الآخرون على الاستئناف .
قوله تعالى : { لتأتون الرجال } ، في أدبارهم .
قوله تعالى : { شهوة من دون النساء } ، فسر تلك الفاحشة يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء .
قوله تعالى : { بل أنتم قوم مسرفون } ، مجاوزون الحلال إلى الحرام ، قال محمد بن إسحاق : كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها ، فقصدهم الناس لينالوا من ثمارهم ، فآذوهم ، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ ، فقال : إن فعلتم بهم كذا نجوتم ، فأبوا ، فما ألح عليهم قصدوهم فأصابوهم غلمانا صباحا ، فأخذوهم وقهروهم على أنفسهم ، وأخبثوا بهم ، فاستحكم ذلك فيهم ، قال الحسن : كانوا لا ينكحون إلا الغرباء ، وقال الكلبي : إن أول من عمل قوم لوط إبليس ، لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان ، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ، ثم دعا إلى دبره ، فنكح في دبره ، فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم ، والأرض أن تخسف بهم .
ثم بينها بقوله : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ْ } أي : كيف تذرون النساء اللاتي خلقهن اللّه لكم ، وفيهن المستمتع الموافق للشهوة والفطرة ، وتقبلون على أدبار الرجال ، التي هي غاية ما يكون في الشناعة والخبث ، ومحل تخرج منه الأنتان والأخباث ، التي يستحيي من ذكرها فضلا عن ملامستها وقربها ، { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ْ } أي : متجاوزون لما حده اللّه متجرئون على محارمه .
ثم أضاف لوط إلى إنكاره على قومه إنكارا آخر وتوبيخا أشنع فقال : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء } .
أى : إنكم إيها القوم الممسوخون في طبائعكم حيث تأتون الرجال الذين خلقهم الله ليأتوا النساء ، ولا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة الخبيثة القذرة .
والاتيان : كناية عن الاستمتاع والجماع . من أتى المرأة إذا غشيها .
وفى إيراد لفظ { الرجال } دون الغلمان والمردان ونحوهما ، مبالغة في التوبيخ والتقريع .
قال صاحب الكشاف : و { شَهْوَةً } مفعول له ، أى للاشتهاء ولا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر . ولا ذم أعظم منه ، لأنه وصف لهم بالبهيمية ، وأنه لا داعى لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه .
أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير متلفتين إلى السماحة " .
وقوله : { مِّن دُونِ النسآء } حال من الرجال أو من الواو في تأتون ، أى : تأتون الرجال حالة كونكم تاركين النساء اللائي هن موضع الاشتهاء عند ذوى الطبائع السليمة ، والأخلاق المستقيمة .
قال الجمل : وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث ، لأن الله - تعالى - خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا ، وجعل النساء محلا للشهوة وموضعا للنسل . فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فقد أسرف وجاوز واعتدى ، لأنه وضع الشىء في غير محله وموضعه الذي خلق له ، لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التي هى مقصودة بتلك الشهوة للإنسان " .
وقوله : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن الأسباب التي جعلتهم يرتكبون هذه القبائح ، وهى أنهم قوم عادتهم الاسراف وتجاوز الحدود في كل شىء .
أى : أنتم أيها القوم لستم ممن يأتى الفاحشة مرة ثم يهجرها ويتوب إلى الله بل أنتم قوم مسرفون فيها وفى سائر أعمالكم ، لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال .
وقد حكى القرآن أن لوطا - عليه السلام - قال لهم في سورة العنكبوت : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } وقال لهم في سورة النمل : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أى : متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة .
وقال لهم في سورة النمل : { أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو بمعنى السفه والطيش .
ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مصابين بفساد العقل ، وانحطاط الخلق ، وإيثار الغى والعدوان على الرشاد والتدبر .
( إنكم لتأتون الرجال - شهوة - من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ) . .
والإسراف الذي يدفعهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية . والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها ، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة ، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب . فهي مجرد ( شهوة ) شاذة . لأن الله جعل لذة 9الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية . فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة ، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري ، قبل أن يكون فساد الأخلاق . . ولا فرق في الحقيقة . فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية ، بلا انحراف ولا فساد .
إن التكوين العضوي للأنثى - كالتكوين النفسي - هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء ، الذي لا يقصد به مجرد " الشهوة " . إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة ، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة ، مصحوباً بلذة تعادل مشقة التكليف ! فأما التكوين العضوي للذكر - بالنسبة للذكر - فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة ؛ بل إن شعور الاستقذار ليسبق ، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة .
وطبيعة التصور الاعتقادي ، ونظام الحياة الذي يقوم عليه ، ذو أثر حاسم في هذا الشأن . .
فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوروبا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً . بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح ، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه .
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود ، بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي . . كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأناحتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات ! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون . ففي أوروبا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل انثى - كما في عالم البهائم ! - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص ! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال ؛ بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء . . ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ : " السلوك الجنسي عند الرجال " و " السلوك الجنسي عند النساء " في تقرير " كنزي " الأمريكي . . ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة ، وتسندها الى حجاب المرأة . لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون ، ووصايا مؤتمرات المبشرين !
يقول تعالى : { وَ } قَدْ أَرْسَلْنَا { لُوطًا } أو تقديره : { وَ } اذكر { لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ }
ولوط هو ابن هاران بن آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل ، عليهما{[11947]} السلام ، وكان قد آمن مع إبراهيم ، عليه السلام ، وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله [ تعالى ]{[11948]} إلى أهل " سَدُوم " وما حولها من القرى ، يدعوهم إلى الله ، عز وجل ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها ، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم ، وهو إتيان الذكور . وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، ولا يخطر ببالهم ، حتى صنع ذلك أهل " سَدُوم " عليهم لعائن الله .
قال عمرو بن دينار : قوله : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : ما نزا ذَكَر على ذَكَر ، حتى كان قوم لوط .
وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي ، باني جامع دمشق : لولا أن الله ، عز وجل ، قص علينا خبر لوط ، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا .
ولهذا قال لهم لوط ، عليه السلام : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } أي : عدلتم{[11949]} عن النساء ، وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال ، وهذا إسراف منكم وجهل ؛ لأنه وضع الشيء في غير محله ؛ ولهذا قال لهم في الآية الأخرى : { [ قَالَ ]{[11950]} هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ الحجر : 71 ] فأرشدهم إلى نسائهم ، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن ، { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [ هود : 79 ] أي : لقد علمت أنه لا أرَبَ لنا في النساء ، ولا إرادة ، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك .
وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى{[11951]} بعضهم ببعض ، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى{[11952]} بعضهن ببعض أيضًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ } .
يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه ، توبيخا منه لهم على فعلهم : إنّكُمْ أيها القوم لَتأْتون الرّحالَ فِي أدبارهم ، شَهْوَةً منكم لذلك ، مِنْ دُونِ الذي أباحه الله لكم وأحله من النّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ يقول : إنكم لقوم تأتون ما حرم الله عليكم وتعصونه بفعلكم هذا ، وذلك هو الإسراف في هذا الموضع . والشهوة : الفَعلة ، وهي مصدر من قول القائل : شهيت هذا الشيء أشهاه شهوة ومن ذلك قول الشاعر :
وأشْعَثَ يَشْهَى النّوْمَ قُلْتُ لَهُ ارْتَحِل ***إذَا ما النّجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَطَرّتِ
فَقامَ يَجُرّ البُرْدَ لَوْ أنّ نَفْسَهُ ***يُقالُ لَهُ خُذْها بِكَفّيْكَ خَرّتِ
وقرأ نافع والكسائي وحفص عن عاصم «أنكم » على الخبر كأنه فسر { الفاحشة } وقرأ ابن كثير أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة : «أإنكم » باستفهام آخر ، وهذا لأن الأول استفهام عن أمر مجمل والثاني عن مفسر ، إلا أن حمزة وعاصماً قرءا بهمزتين ، ولم يهمز أبو عمر وابن كثير إلا واحدة .
و { شهوة } : نصب على المصدر من قولك شهيت الشيء شهاه ، والمعنى تدعون الغرض المقصود بالوطء وهو ابتغاء ما كتب الله من الوالد وتنفردون بالشهوة فقط ، وقوله : { بل أنتم } إضراب عن الإخبار عنهم أو تقريرهم على المعصية وترك لذلك إلى الحكم عليهم بأنهم قوم قد تجاوزوا الحد وارتكبوا الحظر ، والإسراف الزيادة المفسدة .