المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

106- وعند الحكم بين الناس اتَّجِه إلى الله وتذكر عظمته واطلب مغفرته ورحمته ، فإن المغفرة والرحمة من شأنه - سبحانه وتعالى - .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

قوله تعالى : { واستغفر الله } ، مما هممت من معاقبة اليهودي ، وقال مقاتل : واستغفر الله من جدالك عن طعمة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما صدر منك إن صدر .

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : يغفر الذنب العظيم لمن استغفره ، وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

ثم قال - تعالى - { واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } . أى : واستغفر الله مما هممت به من تبرئة طعمة وإدانة اليهودى ، حيث إن ظاهر الأمر يقتضى ذلك ، وهذا وإن لم يكن ذنبا . إلا أنه - سبحانه - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار من ذلك ، لعلو مقامه على حد قول العلماء : حسنات الأبرار سيئات المقربين .

أو المعنى : واستغفر الله لهؤلاء الخائنين لكى يتوبوا إلى الله - تعالى - ببركة استغفارك لهم ، إن الله - تعالى - كان كثير المغفرة لمن تاب إليه ، وكثير الرحمة لمن آمن به واتقاه . وهذا الأمر بالاستغفار والإِنابة إلى الله موجه إلى كل مكلف فى شخص النبى صلى الله عليه وسلم

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

105

وإتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيما للخائنين ، يدافع عنهم ويجادل . وتوجيهه لاستغفار الله - سبحانه - عن هذه المجادلة .

( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله . ولا تكن للخائنين خصيما . واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيمًا ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه .

وقوله : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ، عليه السلام ، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع حَلَبَةَ خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها{[8249]} أو ليذرها " {[8250]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ ، ليس عندهما{[8251]} بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألْحَن بحُجَّتِه من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة " . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليُحْللْ كل واحد منكما{[8252]} صاحبه " .

وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد ، به . وزاد : " إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل عليّ فيه " {[8253]} .

وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجل من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي ، فلما رأى السارق{[8254]} ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء . وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه . فإنه إلا{[8255]} يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذرَه على رءوس الناس ، فأنزل الله : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا{[8256]} } [ يقول : احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب ]{[8257]} { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ]{[8258]} } ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفين بالكذب : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا . هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ]{[8259]} } يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[8260]} } يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } يعني : السارق والذين جادلوا عن السارق . وهذا سياق غريب{[8261]} وكذا{[8262]} ذكر مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت{[8263]} في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة .

وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه ، وابن جرير في تفسيره :

حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحرَّاني ، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قَتَادة بن النعمان ، رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أُبَيْرق : بِشْر وبشير ومُبَشّر ، وكان بُشَير رجلا منافقًا ، يقول{[8264]} الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا{[8265]} ابن الأبيرق قالها . قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة{[8266]} من الشام من الدَّرْمَك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضَافطة{[8267]} من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مَشْربة له ، وفي المشربة سلاح : درع وسيف ، فَعُدي عليه من تحت البيت ، فَنقّبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه . فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أُبَيْرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم .

قال : وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - : والله ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام . فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ والله{[8268]} ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة . قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها .

فقال لي عمي : يا ابن أخي ، لو أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ، فنَقَبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه . فَلْيردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال النبي{[8269]} صلى الله عليه وسلم " سآمُرُ في ذلك " .

فلما سمع بنو أُبَيْرق أتوا رجلا منهم يقال له : أُسَير بن عمْرو{[8270]} فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة{[8271]} بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت . قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثَبَت ولا بينة ؟{[8272]}

قال : فرجعت ولَوَدِدت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } بني أبيرق { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما قلت لقتادة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا . يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ] {[8273]} } إلى قوله : { رَحِيمًا } أي : لو استغفروا الله لغفر لهم { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } إلى قوله : { إِثْمًا مُبِينًا } قولهم للبيد : { وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }

فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة .

فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا ، قد عشا أو عسا - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا ، فلما نزل القرآن لحق بُشَيرٌ بالمشركين ، فنزل على سُلافةَ بنت سعد بن سُمَية ، فأنزل الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من{[8274]} شعره ، فأخذت رَحْلَهُ فوضعته على رأسها ، ثم خرجت به فَرَمَتْ به في الأبطح ، ثم قالت : أهديتَ لي شِعْر حسان ؟ ما كنتَ تأتيني بخير .

لفظ الترمذي ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني : وروى يونس بن بُكَير وغير واحد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن{[8275]} أبيه عن جده .

ورواه ابن حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به ببعضه .

ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني الصائغ - حدثنا الحسن بن أحمد ابن أبي شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة - فذكره بطوله .

ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب ، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به . ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل{[8276]} .

وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري هذا الحديث في كتابه " المستدرك " عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي ، عن يونس بن بُكَير ، عن محمد بن إسحاق - بمعناه أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[8277]} .


[8249]:في أ: "فليأخذها".
[8250]:صحيح البخاري برقم (2458) وصحيح مسلم برقم (1713).
[8251]:في أ: "بينهما".
[8252]:في أ: "كل منهما".
[8253]:المسند (6/320) وسنن أبي داود برقم (3584).
[8254]:في ر: "البارق".
[8255]:في د: "إن لم".
[8256]:في ر: "وأنزل الله الذكر في الكتاب".
[8257]:زيادة من أ.
[8258]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8259]:زيادة من ر، أ، و، وفي هـ: "الآيتين".
[8260]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8261]:ورواه الطبري في تفسيره (9/183) وإسناده مسلسل بالضعفاء كما تقدم.
[8262]:في أ: "وهكذا".
[8263]:في ر: "أن هذه الآية نزلت".
[8264]:في أ: "منافقا فكان يقول".
[8265]:في أ: "وقال".
[8266]:في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".
[8267]:في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".
[8268]:في أ: "فوالله".
[8269]:في د: "رسول الله".
[8270]:في د، أ: "ابن عروة".
[8271]:في أ: "قدادة".
[8272]:في أ: "ثبت وبينة".
[8273]:زيادة من ر، أ.
[8274]:في ر: "في".
[8275]:في أ: "غير".
[8276]:سنن الترمذي برقم (3036) وتفسير الطبري (9/177) وانظر: حاشية الشيخ أحمد شاكر في كلامه على هذا الحديث (9/181).
[8277]:المستدرك (4/385 - 388) ووافقه الذهبي.

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } : إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، يعني القرآن ، { لتَحْكُمَ بَيْنَ النَاسِ } لتقضي بين الناس ، فتفصل بينهما { بِما أرَاكَ اللّه } يعني : بما أنزل الله إليك من كتابه . { وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصيما } يقول : ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله ، خصيما تخاصم عنه ، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه . { واسْتَغْفِرِ اللّهَ } يا محمدُ وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره . { إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما } يقول : إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنن بتركه عقوبتهم عليها ، إذا استغفروه منها ، رحيما بهم ، فافعل ذلك أنت يا محمد ، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن . وقد قيل إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن ، ولكنه همّ بذلك ، فأمره الله بالاستغفار مما همّ به من ذلك . وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم بنو أُبَيْرِق .

واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه الله بها ، فقال بعضهم : كانت سرقة سرقها . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ } فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق ، وقال أصحابه من المؤمنين للنبيّ : اعذره في الناس بلسانك ! ورمَوا بالدرع رجلاً من يهود بريئا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بِشر وبُشَير مبشّر ، وكان بشير رجلاً منافقا ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله إلى بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر ، قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ، فقال :

أوَ كُلّما قالَ الرّجالُ قَصِيدَةً ***أضِمُوا وقالُوا ابنُ الأبَيْرِقِ قالَهَا

قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدّرمك ، ابتاع الرجل منهم ، فخصّ به نفسه ، فأما العيال : فإنما طعامهم التمر والشعير . فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك ، فجعله في مشرَبة له ، وفي المشربة سلاح له : درعان وسيفاهما وما يصلحهما . فَعُدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعّلمْ أنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بسلاحنا وطعامنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم . قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهم ! رجل منا له صلاح وإسلام . فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ، ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة ! قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ! فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقلت : يا رسول الله ، إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردّوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سأنْظُرُ في ذلك » . فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثَبَت . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : «عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بالسّرِقَةِ على غيرِ بَيّنَةٍ وَلا ثَبَتٍ ! » . قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . فأتيت عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } يعني : بني أبيرق ، { وَاسْتَغْفِر اللّهَ } أي مما قلت لقتادة ، { إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } أي بني أبيرق { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما . يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } . . . إلى قوله : { ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ ، يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } : أي أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم ، { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا } قولهم للبيد : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ } يعني أسيرا وأصحابه . { وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ } . . . إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما } ، فلما نزل القرآن أتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح ، فردّه إلى رفاعة . قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً¹ فلما أتيته بالسلاح ، قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . قال : فعرفت أن إسلامه كان صحيحا . فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل ، فأنزل اللهفيه : { وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا } . فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر . فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالأبطح ، ثم قالت : أهديت إليّ شعر حسان ! ما كنت تأتيني بخير .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } يقول : بِمَا أنزل الله عليك وبيّن لك ، { وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصِيما } فقرأ إلى قوله : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما } . ذكر لنا أن هؤلاء الاَيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما همّ به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من عذره ، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق ، ووعظ نبيه صلى الله عليه وسلم وحذّره أن يكون للخائنين خصيما . وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار ، ثم أحد بني ظَفَر ، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده ، ثم قذفها على يهوديّ كان يغشاهم ، يقال له زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم ، وكان نبيّ الله عليه الصلاة والسلام قد همّ بعُذره ، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل ، فقال : { وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } إلى قوله : { ها أنْتُمْ هؤلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يُجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني بذلك قومه ، { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَريئا فَقَد احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } ، وكان طعمة قذف بها بريئا . فلما بين الله شأن طعمة ، نافق ولحق بالمشركين بمكة ، فأنزل الله في شأنه : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَساءَتْ مَصِيرا } .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاس بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } وذلك أن نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأَظَنّ بها رجلاً من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي . فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى السارق ذلك ، عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ، فقالوا : يا نبيّ الله إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ، وقد أُحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } يقول : احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب ، { واسْتَغْفِرِ اللّهَ إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } . . . . الاَية ، ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } . . . . إلى قوله : { أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب . ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } يعني : السارق والذين يجادلون عن السارق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } . . . الاَية . قال : كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهوديّ ، فقال اليهوديّ : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ ! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرّئونه ويطرحونه على اليهوديّ ويقولون : يا رسول الله ، إن هذا اليهوديّ الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ! قال : حتى مال عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك ، فقال : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما واسْتِغْفِرِ اللّهِ } بما قلت لهذا اليهوديّ ، { إنّ اللّهَ كانَ غَفورا رَحِيما } . ثم أقبل على جيرانه فقال : { ها أنُتمْ هؤُلاءِ جادَلُتمْ عنهُمْ في الحياةِ الدّنيَا } فقرأ حتى بلغ : { أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } . قال : ثم عرض التوبة فقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّهَ يَجِد اللّهَ غَفُورا رَحِيما وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه . { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَرِيئا } وإن كان مشركا . { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } فقرأ حتى بلغ إلى قوله : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له . وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتا ليسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله¹ فذلك قوله : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسولَ مِنْ بَعِدِ ما تَبِيّنَ لَهُ الهُدَي } فقرأ حتى بلغ : { وَساءَتْ مَصِيرا } . ويقال : هو طعمة بن أبيرق ، وكان نازلاً في بني ظفر .

وقال آخرون : بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصيما } جحوده وديعة كان أُودِعَها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } قال : أمّا «ما أراك الله » : فما أوحي الله إليك¹ قال : نزلت في طعمة بن أبيرق ، واستودعه رجل من اليهود درعا ، فانطلق بها إلى داره ، فحفر لها اليهودي ثم دفنها ، فخالف إليها طعمة ، فاحتفر عنها ، فأخذها . فلما جاء اليهوديّ يطلب درعه كَافَرَهُ عنها ، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته ، فقال : انطلقوا معي ، فإني أعرف وضع الدرع ! فلما علم بهم طعمة ، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري ، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها ، وقع به طعمة وأناس من قومه ، فسبوه ، وقال : أتخوّنونني ؟ فانطلقوا يطلبونها في داره ، فأشرفوا على بيت أبي مليل ، فإذا هم بالدرع ، وقال طعمة : أخذها أبو مليل . وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي ، فإني إن أُكّذب كذب على أهل المدينة اليهودي . فأتاه أناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله جادل عن طعمة وأَكْذِب اليهودي ! فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، فأنزل الله عليه : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِر اللّهَ } مما أردت { إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما } . ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه ، فقال : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ } يقول : يقولون ما لا يرضى من القول ، { ها أنُتمْ هؤلاء جَادلتمْ عَنهمْ في الحياة الدّنيْا فمنْ يجادِلُ اللّهُ عَنهمْ يومَ القيامةِ } . ثم دعا إلى التوبة ، فقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } . ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال : { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ . . . وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } . ثم ذكر الأنصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله : { لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَك مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ } يقول : النبوّة . ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة ، فقال : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاس } . فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن ، هرب حتى أتى مكة ، فكفر بعد إسلامه . ونزل على الحجاج بن علاط السلمي ، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه ، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده ، فنظر فإذا هو بطعمة ، فقال : ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني ؟ ! فأخرجه فمات بحرّة بني سليم كافرا ، وأنزل الله فيه : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِنَ نُوَلّه ما تَوَلى } . . . إلى : { وَساءَتْ مَصِيرا } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشرُبه له فيها درع ، وخرج فغاب . فلما قدم الأنصاريّ فتح مشربته فلم يجد الدرع ، فسأل عنها طعمة بن أبيرق ، فرمي بها رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين . فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه¹ فلما رأى ذلك قومه أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } يعني طعمة بن أبيرق وقومه ، { ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يِجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أمّنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً } محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة . { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } محمد وطعمة وقومه ، قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } . . . الاَية ، طعمة . { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا } يعني : زيد بن السمين ، { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا } طعمة بن أبيرق . { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمتُهُ } يا محمد ، { لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } قوم طعمة ابن أبيرق . { وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيما } محمد صلى الله عليه وسلم . { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ } حتى تنقضي الاَية للناس عامة . { وَمَنْ يُشاققِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَي وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } . . . الاَية . قال : لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه ، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهزيّ ثم السلمي حليف لبني عبد الدار ، فنقبها ، فسقط عليه حجر فَلِحجَ . فلما أصبح أخرجوه من مكة ، فخرج فلقي ركبا من بهراء من قضاعة ، فعرض لهم ، فقال : ابن سبيل منقطع به ! فحملوه حتى إذا جنّ عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ، ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه ، فقذفوه بالحجارة حتى مات . قال ابن جريج : فهذه الاَيات كلها فيه نزلت إلى قوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } أنزلت في طعمة بن أبيرق ، يقولون : إنه رَمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخزرجي ، فلما نزل القرآن لحق بقريش ، فكان من أمره ما كان .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } يقول : بما أنزل عليك وأراكه في كتابه . ونزلت هذه الاَية في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها ، فخوّنه رجال من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب له قومه ، وأتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : خوّنوا صاحبنا وهو أمين مسلم ، فاعذره يا نبيّ الله وازجر عنه ! فقام نبيّ الله فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه ، فأنزل الله بيان ذلك فقال : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } . . . إلى قوله : { أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } فبين الله خيانته . فلحق بالمشركين من أهل مكة ، وارتدّ عن الإسلام ، فنزل فيه : { وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } إلى قوله : وَساءَتْ مَصِيرا } .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الاَية قول من قال : كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الاَية جحوده ما أودع ، لأن ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب¹ وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

{ واستغفر الله } مما همت به . { إن الله كان غفورا رحيما } لمن يستغفر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

وقوله تعالى : { واستغفر الله } ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بذنب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر ، وهو يعتقد براءتهم ، والمعنى : استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل ، لا أن تكون ذا جدال عنهم ، فهذا حدك ، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع ، وتستغفر للمذنب{[4275]} .


[4275]:- وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله على طريق التسبيح دون أن يقصد توبة من ذنب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

الأمرُ باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول ، فالمراد بالأمر غيره ، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه ، أو أراد : واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم . وهذا نظير قوله : { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه ، كما أخطأ فيه مَن تَوهَّم ذلك ، فركَّب عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطر بباله مَا أوجب أمره بالاستغفار ، وهو هَمُّه أن يجادل عن بني أبيرق ، مع علمه بأنّهم سرقوا ، خشية أن يفتضحوا ، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم .