الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : " كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي . وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به ، حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله في ذلك فقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ، واستغفر الله } بما قلت لهذا اليهودي { إن الله كان غفورا رحيما } ثم أقبل على جيرانه فقال { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم } إلى قوله { وكيلا } ثم عرض التوبة فقال { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ، ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه } فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا } وإن كان مشركا { فقد احتمل بهتانا } إلى قوله { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتا يسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله .

وأخرج ابن المنذر عن الحسن " أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اختان درعا من حديد ، فلما خشي أن توجد عنده ألقاها في بيت جار له من اليهود وقال : تزعمون إني اختنت الدرع - فوالله - لقد أنبئت أنها عند اليهودي ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاء أصحابه يعذرونه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره حين لم يجد عليه بينة ، ووجدوا الدرع في بيت اليهودي ، وأبى الله إلا العدل ، فأنزل الله على نبيه { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } إلى قوله { أمن يكون عليهم وكيلا } فعرض الله بالتوبة لو قبلها إلى قوله { ثم يرم به بريئا } اليهودي ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولولا فضل الله عليك ورحمته } إلى قوله { وكان فضل الله عليك عظيما } فأبرئ اليهودي ، وأخبر بصاحب الدرع قال : قد افتضحت الآن في المسلمين ، وعلموا أني صاحب الدرع ما لي إقامة ببلد ، فتراغم فلحق بالمشركين ، فأنزل الله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) ( النساء الآية 114 ) إلى قوله ( ضلالا بعيد ) " .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } قال : بما أوحى الله إليك ، نزلت في طعمة بن أبيرق ، استودعه رجل من اليهود درعا ، فانطلق بها إلى داره ، فحفر لها اليهودي ثم دفنها ، فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها ، فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها ، فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع ، فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في بيت أبي مليك الأنصاري ، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها ، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه قال : أتخونوني . . . ؟ فانطلقوا يطلبونها في داره ، فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع ، وقال طعمة : أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي ، فإني إن أكذب كذب على أهل المدينة اليهودي ، فأتاه أناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله جادل عن طعمة وأكذب اليهودي . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، فأنزل الله عليه { ولا تكن للخائنين خصيما } إلى قوله { أثيما } ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله } إلى قوله { وكيلا } ثم دعا إلى التوبة فقال { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } إلى قوله { رحيما } ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليك ، فقال { ومن يكسب إثما } إلى قوله { مبينا } ثم ذكر الأنصار وأتيانها إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقال : { لهمت طائفة منهم أن يضلوك } ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة فقال : ( لا خير في كثير من نجواهم ) ( النساء الآية 115 ) فلما فضح الله طعمة بالقرآن بالمدينة هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ، ونزل على الحجاج بن علاط السلمي ، فنقب بيت الحجاج ، فأراد أن يسرقه ، فسمع الحجاج خشخشته في بيته وقعقعة جلود كانت عنده ، فنظر فإذا هو بطعمة فقال : ضيفي وابن عمي فأردت أن تسرقني ؟ فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا ، وأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) ( النساء الآية 115 ) إلى ( وساءت مصيرا ) .

وأخرج سنيد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشربة له فيها درع فغاب ، فلما قدم الأنصاري فتح مشربته فلم يجد الدرع ، فسأل عنها طعمة بن أبيرق فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين ، فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه ، فلما رأى ذلك قومه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلموه ليدرأ عنه ، فهم بذلك ، فأنزل الله { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس } إلى قوله { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يعني طعمة بن أبيرق وقومه { ها أنتم هؤلاء جادلتم } إلى قوله { يكون عليهم وكيلا } محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة { ثم يرم به بريئا } يعني زيد بن السمين { فقد احتمل بهتانا } طعمة بن أبيرق { ولولا فضل الله عليك ورحمته } لمحمد صلى الله عليه وسلم { لهمت طائفة } قوم طعمة ( لا خير في كثير ) ( النساء الآية 114 ) الآية للناس عامة ( ومن يشاقق الرسول ) ( النساء الآية 115 ) قال : لما أنزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه ، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهري فنقبها ، فسقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة ، فخرج فلقي ركبا من قضاعة ، فعرض لهم فقال : ابن سبيل منقطع به . فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق ، فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات . فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( النساء الآية 115 ) .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ، استودع درعا فجحدها صاحبها ، فلحق به رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب له قومه وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : خونوا صاحبنا وهو أمين مسلم ، فأعذره يا نبي الله وازجر عنه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه ، فأنزل الله بيان ذلك فقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } إلى قوله { أمن يكون عليهم وكيلا } فبين خيانته فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتد عن الإسلام ، فنزل فيه ( ومن يشاقق الرسول ) ( النساء الآية 115 ) إلى قوله ( وساءت مصيرا ) .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي " أن رجلا يقال له طعمة بن أبيرق سرق درعا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فألقاها في بيت رجل ، ثم قال لأصحاب له : انطلقوا فاعذروني عند النبي صلى الله عليه وسلم فإن الدرع قد وجد في بيت فلان . فانطلقوا يعذرونه عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا } قال : بهتانه قذفه الرجل " .