ثم بعد ذلك : { ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } أى : ذهب إلى أهله متبخترا متفاخرا ، متباهيا بإصراره على كفره وفجوره .
وقوله : { يتمطى } من المط بمعنى المد . وأصله : يتمطط ، قلبت فيه الطاء حرف علة ، ووصف المتبختر فى مشيه بذلك ، لأنه يمط خطاه ، ويمدها على سبيل الإِعجاب بنفسه ، والتباهى بما هو عليه من كفر وضلال .
ولم يذكر - سبحانه - المتعلق والمفعول فى الآيات الكريمة ، للإِشعار بأن هذا الإِنسان الجاحد الجاهل . . لم يصدق بشئ من الحق ، ولم يؤد الله - تعالى - فرضا ولا سنة ، ولكنه استمر على تكذيبه وإعراضه عن الصراط المستقيم ، ولم يكتف بكل ذلك ، بل تفاخر وتباهى أمام وغيره بما هو عليه من باطل .
وفي مواجهة المشهد المكروب الملهوف الجاد الواقع يعرض مشهد اللاهين المكذبين ، الذين لا يستعدون بعمل ولا طاعة ، بل يقدمون المعصية والتولي ، في عبث ولهو ، وفي اختيال بالمعصية والتولي :
( فلا صدق ولا صلى ، ولكن كذب وتولى ، ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) ! . .
وقد ورد أن هذه الآيات تعني شخصا معينا بالذات ، قيل هو أبو جهل " عمرو بن هشام " . . وكان يجيء أحيانا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يسمع منه القرآن . ثم يذهب عنه ، فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى ؛ ويؤذي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالقول ، ويصد عن سبيل الله . . ثم يذهب مختالا بما يفعل ، فخورا بما ارتكب من الشر ، كأنما فعل شيئا يذكر . .
والتعبير القرآني يتهكم به ، ويسخر منه ، ويثير السخرية كذلك ، وهو يصور حركة اختياله بأنه( يتمطى ! )يمط في ظهره ويتعاجب تعاجبا ثقيلا كريها !
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله ، يسمع ويعرض ، ويتفنن في الصد عن سبيل الله ، والأذى للدعاة ، ويمكر مكر السيئ ، ويتولى وهو فخور بما أوقع من الشر والسوء ، وبما أفسد في الأرض ، وبما صد عن سبيل الله ، وبما مكر لدينه وعقيدته وكاد !
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى }أي : جَذلا{[29567]} . أشرا بَطرا كسلانا ، لا همة له ولا عمل ، كما قال : { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 34 ] . وقال { إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } أي : يرجع { بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا } [ الانشقاق : 13 - 15 ] .
وقال الضحاك : عن ابن عباس : { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } [ أي ]{[29568]} . يختال . وقال قتادة ، وزيد بن أسلم : يتبختر .
وقوله ثُمّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى يقول تعالى ذكره : ثم مضى إلى أهله منصرفا إليهم ، يتبختر في مشِيته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى : أي يتبختر .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن ميسرة بن عبيد ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : ثُمّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى قال : يتبختر ، قال : هي مشية بني مخزوم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن إسماعيل بن أمية ، عن مجاهد ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى قال : رأى رجلاً من قريش يمشي ، فقال : هكذا كان يمشي كما يمشي هذا ، كان يتبختر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يَتَمَطّى قال : يتبختر وهو أبو جهل بن هشام ، كانت مِشيته .
وقيل : إن هذه الاَ ية نزلت في أبي جهل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَتَمَطّى قال : أبو جهل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا صَدّقَ وَلا صَلّى وَلَكِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى ثُمّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى قال : هذا في أبي جهل متبخترا .
وإنما عُني بقوله يَتَمَطّى يلوي مطاه تبخترا ، والمطا : هو الظهر ، ومنه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا مَشَتْ أُمّتِي المُطَيطَاءَ » وذلك أن يلقي الرجل بيديه ويتكفأ .
و { يتمطى } معناه يمشي المطيطى وهي مشية بتبختر قال زيد بن أسلم : كانت مشية بني مخزوم ، وهي مأخوذة من المطا وهو الظهر لأنه يتثنى فيها ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مشت أمتي المطيطى وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض »{[1]} وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أبي جهل .
و { يتمطّى } : يمشي المُطَيْطَاءَ ( بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة ) وهي التبختر .
وأصل { يتمطى } : يتمطط ، أي يتمدد لأن المتبختر يمُدّ خطاه وهي مشية المعجب بنفسه . وهنا انتهى وصف الإِنسان المكذب .
والمعنى : أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أهله مزدهياً بنفسه غير مفكر في مصيره .
قال ابن عطية : قال جمهور المتأولين : هذه الآية كلها من قوله : { فَلا صدّق ولا صلّى } نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى : { يتمطى } فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اه . وفيه نظر سيأتي قريباً .