قوله تعالى : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } ، أي : لأسمعهم سماع التفهم والقبول . قوله تعالى : { ولو أسمعهم } بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك .
قوله تعالى : { لتولوا وهم معرضون } ، لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره ، وقيل : إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : أحيي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك ، فقال الله عز وجل : { ولو أسمعهم } كلام قصي { لتولوا وهم معرضون } .
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ على الفرض والتقدير لَتَوَلَّوْا عن الطاعة وَهُمْ مُعْرِضُونَ لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه ، وهذا دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان والخير ، إلا لمن لا خير فيه ، الذي لا يزكو لديه ولا يثمر عنده . . وله الحمد تعالى والحكمة في هذا .
24 - 25 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .
وقوله - تعالى - { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية .
أى : ولو علم الله - تعالى - في هؤلاء الصم والبكم { خَيْراً } أى : استعدادا للإِيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم { لأَسْمَعَهُمْ } سماع تفهم وتدبر ، أى : لجعلهم سامعين للحق ، ومستجيبين له ، ولكنه - سبحانه - لم يعلم فيهم شيئا من ذلك ، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم .
ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أى : ولو أمسعهم سماع تفهم وتدبر ، وهم على هذه الحالة العارية من كل خير لتولوا عما سمعوه من الحق { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } عن قبوله جحودا وعنادا .
قال الفخر الرازى : قوله - تعالى - : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أى : أن كل ما كان حاصلا ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده ، وتقرير الكلام : لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم ، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا به ، ولتولوا وهم معرضون .
( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ) . .
أي لأسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم . . ولكنه - سبحانه - لم يعلم فيهم خيرا ولا رغبة في الهدى فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة ؛ فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم ، وما أفسدوا هم من فطرتهم . ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه ، ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا . . ( ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون ) . . .
لأن العقل قد يدرك ، ولكن القلب المطموس لا يستجيب . فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة . والاستجابة هي السماع الصحيح . وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب !
ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ، ولا قصد لهم صحيح ، لو فرض أن لهم فهما ، فقال : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ } أي : لأفهمهم ، وتقدير الكلام : ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم ؛ لأنه يعلم أنه { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } أي : أفهمهم { لَتَوَلَّوْا } عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك ، { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ } . .
اختلف أهل التأويل ، فيمن عني بهذه الاَية وفي معناها ، فقال بعضهم : عني بها المشركون ، وقال : معناه أنهم لو رزقهم الله الفهم لِما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا به ، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أسْمَعَهُمْ لقالُوا ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا ولقالوا : لولا اجْتَبَيْتَهَا . ولو جاءهم بقرآن غيره لتولّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ أسْمَعْهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ قال : لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك ، ولتولوا وهم معرضون .
وحدثني به مرّة أخرى ، فقال : لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ، ولو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به .
وقال آخرون : بل عني بها المنافقون . قالوا : ومعناه : ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرا لأَسْمَعَهُمْ لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم ، ولكن القلوب خالفت ذلك منهم ، ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون ، فأوفوا لكم بشرّ مما خرجوا عليه .
وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد لما قد ذكرنا قبل من العلة ، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين .
فتأويل الاَية إذن : ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرا لأسمعهم مواعظ القرآن وعبره ، حتى يعقلوا عن الله حججه منه ، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون . ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا لتولوا عن الله وعن رسوله ، وهم معرضون عن الإيمان بما دلهم على حقيقته مواعظ الله وعبره وحججه معاندون للحقّ بعد العلم به .
{ ولو علم الله فيهم خيرا } سعادة كتبت لهم أو انتفاعا بالآيات . { لأسمعهم } سماع تفهم . { ولو أسمعهم } وقد علم أن لا خير فيهم . { لتولّوا } ولم ينتفعوا به ، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول . { وهم معرضون } لعنادهم . وقيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك . والمعنى لأسمعهم كلام قصي .
ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى ، ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال { ولو أسمعهم } أي ولو أفهمهم { لتولوا } بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : المعنيّ بهذه الآية المنافقون ، وضعفه الطبري وكذلك هو ضعيف .