{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } فإن الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه ، يوجب على العبد موالاة ربه ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة من كفر به وعاداه ، وأوضع في معاصيه ، فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به ، أن لا يتخذ أعداء الله أولياء ، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط ، فدل على انتفاء المشروط . { وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن طاعة الله والإيمان به وبالنبي . ومن فسقهم موالاةُ أعداء الله .
ثم بين - سبحانه - الدوافع التي حملت هؤلاء الفاسقين من أهل الكتاب على ولاية الكافرين ومصادقتهم ومعاونتهم على حرب المسلمين فقال :
{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
فالضمير في قوله : { كانوا } يعود إلى أولئك الكثيرين من أهل الكتاب الذين حملهم حقدهم وبغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على موالاة الكافرين .
والمراد - هنا - بالنبي : موسى - عليه السلام - وبما أنزل إليه التوراة ، لأن الحديث مع الكافرين من بني إسرائيل الذين يزعمون أنهم من أتباع موسى .
وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بما أُنزل إليه : القرآن .
أي : ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله إيمانا حقا ، ويؤمنون بنبيهم موسى إيمانا صادقا ويؤمنون بالتوارة التي أنزلها الله عليه إيمانا سليما ، لو كانوا مؤمنين هذا الإِيمان الصادق ، لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء ، لأن تحريم موالاة المشركين متأكدة في التوراة وفي كل شريعة أنزلها الله على نبي من أنبيائه .
وقوله : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } استدارك لبيان حالهم ، ولبيان سبب موالاتهم للكافرين وعدواتهم للمسلمين .
أي : ولكن كثيراً من هؤلاء اليهود فاسقون ، أي : خارجون عن الدين الحق إلى الأديان الباطلة ، فدفعهم هذا الفسق ، وما صاحبه من حقد وعناد على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين .
وقد كرر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة ، إنصافا للقلة التي آمنت وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة . .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت ما عليه الكافرين من بني إسرائيل من صفات ذميمة ، أفضت إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله ، حتى يحذرهم المسلمون ويجتنبوا سلوكهم السيء ، وخلقهم القبيح .
وبعد هذا الحديث الطويل الذي طوفت فيه سورة المائدة مع أهل الكتاب بصفة عامة ومع اليهود بصفة خاصة ، والذي تحدثت خلاله عن علاقة المؤمنين بهم وعن العهود التي أخذها الله عليهم وموقفهم نمها ، وعن دعاواهم الباطلة وكيف در القرآن عليها ، وعن أخلاقهم السيئة ، وعن مسالكهم الخبيثة ليكد الإِسلام والمسلمين ، وعن المصير السيء الذي ينتظرهم إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم ، وعن المنهاج القويم الذي استعمله القرآن معهم في دعوتهم إلى الدين الحق ، بعد هذا الحديث الطويل معهم في تلك الموضوعات وفي غيرها نرى السورة الكريمة في نهاية المطاف تحدثنا عن اشد الناس عداوة للمؤمنين وعن أقربهم مودة لهم فتقول :
وما الدافع ؟ ما دافع القوم لتولي الذين كفروا ؟ إنه عدم الإيمان بالله والنبي :
( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون ) . .
هذه هي العلة . . إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي . . إن كثرتهم فاسقة . . إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ؛ فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين . .
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة :
الحقيقة الأولى : أن أهل الكتاب جميعا - إلا القلة التي آمنت بمحمد [ ص ] غير مؤمنين بالله . لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير . ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده . بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك . ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل . مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله . . وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله ، على لسان محمد [ ص ] فإن استجابوا فقد أمنوا ، وأصبحوا على دين الله . وإن تولوا فهم كما وصفهم الله .
والحقيقة الثالثة : أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين ، في شأن من الشئون . لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين .
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ؛ وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ؛ وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ؛ وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك . والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين . . وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين . .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } أي : لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان{[10194]} لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن ، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه { وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلََكِنّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل يُؤْمِنُونَ بالله والنّبِيّ يقول : يصدّقون بالله ويقرّون به ويوحدونه ويصدّقون نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، بأنه لله نبيّ مبعوث ورسول مرسل . وما أُنْزِلَ إلَيْهِ يقول : يقرّون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان . ما اتّخَذُوهُمْ أوْلِيَاءٍ يقول : ما اتخذوهم أصحابا وأنصارا من دون المؤمنين . وَلَكِنّ كَثِيرا مِنْهُمْ فاسِقُونَ يقول : ولكن كثيرا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته وأهل استحلال لما حرّم الله عليهم من القول والفعل . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالنّبِيّ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتّخَذُوهُمْ أوْلِياءَ قال : المنافقون .