{ الذين آمنوا } ، في محل النصب ، بدل من قوله : من أناب ، { وتطمئن } ، تسكن ، { قلوبهم بذكر الله } ، قال مقاتل : بالقرآن ، والسكون يكون باليقين ، والاضطراب يكون بالشك ، { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ، تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيها اليقين . قال ابن عباس : هذا في الحلف ، يقول : إذا حلف المسلم بالله على شيء تسكن قلوب المؤمنين إليه . فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال-2 ] ، فكيف تكون الطمأنينة والوجل في حالة واحدة ؟ قيل : الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب ، والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب ، فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه ، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وثوابه وكرمه .
ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي : يزول قلقها واضطرابها ، وتحضرها أفراحها ولذاتها .
{ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } أي : حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره ، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها ، والأنس به ومعرفته ، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له ، يكون ذكرها له ، هذا على القول بأن ذكر الله ، ذكر العبد لربه ، من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك .
وقيل : إن المراد بذكر الله كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين ، فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر الله : أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها ، فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالأدلة والبراهين ، وبذلك تطمئن القلوب ، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم ، وذلك في كتاب الله ، مضمون على أتم الوجوه وأكملها ، وأما ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها ، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة وتضاد الأحكام .
{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب الله وتدبره ، وتدبر غيره من أنواع العلوم ، فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما .
ثم رسم القرآن سورة مشرقة للقلوب المؤمنة ، وللجزاء الحسن الذي أعده الله لها فقال - تعالى - { الذين آمَنُواْ } حق الإِيمان ، { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } أى : تستقر قلوبهم وتسكن ، بسبب تدبرهم لكلامه المعجز وهو القرآن الكريم وما فيه من هدايات .
وإطلاق الذكر على القرآن الكريم ورد في آيات منها قوله - تعالى - { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } وقوله - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقوله : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } أى : ألا بذكره وحده دون غيره من شهوات الحياة تسكن القلوب أنساً به ، ومحبة له .
ويصح أن يراد بذكر الله هنا ما يشمل القرآن الكريم ، ويشمل ذكر الخالق - عز وجل - باللسان ، فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب على مراقبته - سبحانه - كما يصح أن يراد به خشيته - سبحانه - ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه .
إلا أن الأظهر هنا أن يراد به القرآن الكريم ، لأنه الأنسب للرد على المشركين الذين لم يكتفوا به كمعجزة دالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه .
واختيرالفعل المضارع في قوله - سبحانه - { تطمئن } مرتين في آية واحدة ، للإشارة إلى تجدد الاطمئنان واستمراره ، وأنه لا يتخلله شك ولا تردد .
وافتتحت جملة { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } بأداة الاستفتاح المفيدة للتنبيه ، للاهتمام بمضمونها ، وللإِغراء بالإِكثار من ذكره - عز وجل - ، ولإِثارة الكافرين إلى الاتسام بسمة المؤمنين لتطمئن قلوبهم .
ولا تنافى بين قوله - تعالى - هنا { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } وبين قوله في سورة الأنفال { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ . . . } أى : خافت .
لأن وجلهم إنما هو عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب . أو وجلت من هيبته وخشيته - سبحانه - وهو لا ينافى اطمئنان الاعتماد والرجاء
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة . في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام :
( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) . .
تطمئن بإحساسها بالصلة بالله ، والأنس بجواره ، والأمن في جانبه وفي حماه . تطمئن من قلق الوحدة ، وحيرة الطريق . بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير . وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء ، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء . وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة :
( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) . .
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم ، فاتصلت بالله . يعرفونها ، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلا الآخرين الذين لم يعرفوها ، لأنها لا تنقل بالكلمات ، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام ، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس . فكل ما حوله صديق ، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه .
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله . ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون ، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون . ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء ? ولم يذهب ? ولم يعاني ما يعاني في الحياة ? ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود . ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة ، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله ، مطمئنا إلى حماه ، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد . . ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله ، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي : تطيب وتركن إلى جانب{[15594]} الله ، وتسكن عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرًا ؛ ولهذا قال : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } أي : هو حقيق بذلك .