1 - أقسم بالآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد للعرف والخير ، فالآيات القاهرات لسائر الأديان الباطلة تنسفها نسفاً ، وبالآيات الناشرات للحكمة والهداية في قلوب العالمين نشراً عظيماً ، فالفارقات بين الحق والباطل فرقاً واضحاً ، فالملقيات على الناس تذكرة تنفعهم - إعذاراً لهم وإنذاراً - فلا تكون لهم حُجة : إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لنازل لا ريب فيه .
{ عذراً أو نذراً } أي للإعذار والإنذار ، وقرأ الحسن { عذراً } بضم الذال واختلف فيه عن أبي بكر عن عاصم ، وقراءة العامة بسكونها ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص { نذراً } ساكنة الذال وقرأ الباقون بضمها ، ومن سكن قال : لأنهما في موضع مصدرين بمعنى الإنذار والإعذار ، وليسا بجمع فينقلا إلى ها هنا أقسام ذكرها على قوله
وقوله { عُذْراً أَوْ نُذْراً } منصوبان على أنهما بدل اشتمال من قوله { ذكرا } أو مفعول لأجله .
أى : أن الملائكة يلقون وحى الله - تعالى - إلى أنبيائه ، لإِزالة أعذار المعتذرين عن الإِيمان ، حتى لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ولإِنذار الكافرين والفاسقين ، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما العذر والنذر ، وبماذا انتصبا ؟ قلت : هما مصدران من أعذر إذا محا الإِساءة ، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والنكر ، ويجوز أن يكون جمع عذير ، بمعنى المعذرة ، وجمع نذير بمعنى الإِنذار . . وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكرا . . أو على المفعول له . .
والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا . فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا : عذرا أو نذرا . . إن ما توعدون لواقع . .
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها ؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى الموكدات في مواضع منه شتى . وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم ، ، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها ، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا . فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية ، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية . وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة ، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا . . ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول .
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع . وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب ، وقواه المكنونة ، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر . وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها . فقال بعضهم : هي الرياح إطلاقا . وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا . وقال بعضهم : إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة . . مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها . وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله . وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر .
( والمرسلات عرفا ) . . عن أبي هريرة أنها الملائكة . وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات ، والسدي والربيع بن أنس ، وأبي صالح في رواية [ والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أرسالا متوالية ، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها ] .
وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات . . إنها الملائكة .
وروي عن ابن مسعود . . المرسلات عرفا . قال : الريح . [ والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها ] وكذا قال في العاصفات عصفا والناشرات نشرا . وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية .
وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفا هل هي الملائكة أو الرياح . وقطع بأن العاصفات هي الرياح . وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء .
وعن ابن مسعود : ( فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ، عذرا أو نذرا )يعني الملائكة . وكذا قال : ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف . فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل . وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار .
ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا . وفي النازعات غرقا . . وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها . وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا . وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام . وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها ، والظلال المباشرة التي تلقيها . وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها . . وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة ، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا ، وهو يستجوبه عن ذنب ، أو عن آية ظاهرة ينكرها ، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد : ( ويل يومئذ للمكذبين ) . .
وقوله : عُذْرا أوْ نُذْرا يقول تعالى ذكره : فالملقيات ذكرا إلى الرسل إعذارا من الله إلى خلقه ، وإنذارا منه لهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة عُذْرا أوْ نُذْرا قال : عذرا من الله ، ونُذْرا منه إلى خلقه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله عُذْرا أوْ نُذْرا : عذرا لله على خلقه ، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ، ويأخذون به .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس عُذْرا أوْ نُذْرا يعني : الملائكة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض المكيين وبعض الكوفيين : عُذْرا بالتخفيف ، أو نُذْرا بالتثقيل . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين بتخفيفهما ، وقرأه آخرون من أهل البصرة بتثقيلهما والتخفيف فيهما أعجب إليّ وإن لم أدفع صحة التثقيل لأنهما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار .
واختلف القراء في قوله تعالى : { عذراً أو نذراً } ، فقأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر وشيبة بسكون الذال في «عذْر » وضمها في «نذُر » ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وإبراهيم التيمي بسكون الذال فيهما ، وقرأ طلحة وعيسى والحسن بخلاف ، وزيد بن ثابت وأبو جعفر وأبو حيوة والأعمش عن أبي بكر عن عاصم بضمها فيهما فإسكان الذال على أنهما مصدران يقال عذْر وعذير ونذْير كنكر ونكير ، وضم الذال يصح معه المصدر ، ويصح أن يكون جمعاً لنذير وعاذر للذين هما اسم فاعل ، والمعنى أن الذكر يلقي بإعذار وإنذار أو يلقيه معذورون ومنذرون ، وأما النصب في قوله { عذراً أو نذراً } فيصح إذا كانا مصدرين أن يكون لك على البدل من الذكر ، ويصح أن يكون على المفعول للذكر كأنه قال { فالملقيات } أن يذكر { عذراً } ويصح أن يكون { عذراً } مفعولاً لأجله أي يلقي الذكر من أجل الإعذار ، وأما إذا كان { عذراً أو نذراً } جمعاً فالنصب على الحال . وقرأ إبراهيم التيمي «عذراً أو نذراً » بواو بدل { أو } .