ثم ذكر القرآن الكريم لهم جنايات أخرى تدل على أنهم لم يؤمنوا بما أنزل عليهم كما يدعون . ومن تلك الجنايات عبادتهم العجل ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } .
البينات : جمع بينة وهي الآيات والمعجزات الدالة على صدقة وحقية نبوته ، كانقلاب العصا ثعباناً ، وفلق البحر ، وانفجار العيون من الحجر . . . إلخ .
وإنما سماها الله بينات ، لأنها لما كانت لا يقدر على أن يأتي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له دلت على صدق موسى - عليه السلام - في نبوته ورسالته .
والمعنى : ولقد جاءكم - يا بني إسرائيل - نبينا موسى بالآيات الواضحات الدالة على صدقة ، وحقيقة نبوته ، وكان من الواجب عليكم أن تتبعوه وتطيعوهولكنكم لم تفعلوا فقد اتخذتم العجل إلهاً من بعد مفارقة نبيكم موسى لكم لمناجاة ربه ، ومن بعد مشاهدتكم لتلك المعجزات ، التي استبان بها صدقة فيما يبلغكم عن ربه فأنتم ظالمون بذلك ، لأنكم تركتم عبادة من يستحق العبادة وهو الله - تعالى - وعبدتم العجل الذي لا يملك ضراً ولا نفعاً .
فالآية الكريمة فيها أبطال لدعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم ، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقاص بنبيهم الذي جاءهم بالبينات ، لما تركوا ما أمرهم به وهو عبادة الله ، وفعلوا ما نهاهم عنه وهو عبادة العجل .
{ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسَى بالبَيّناتِ } أي جاءكم بالبينات الدالّة على صدقه وحقية نبوّته كالعصا التي تحوّلت ثعبانا مبينا ، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين ، وفَلْق البحر ، ومصير أرضه له طريقا يبسا ، والجراد والقمّل والضفادع ، وسائر الاَيات التي بينت صدقه وحقية نبوّته . وإنما سماها الله بينات لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له ، وإنما هي جمع بيّنة مثل طيبة وطيبات .
قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : ولقد جاءكم يا معشر يهود بني إسرائيل موسى بالاَيات البينات على أمره وصدقه وحقية نبوّته . وقوله : { ثُمّ اتّخَذْتُم العجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ } يقول جل ثناؤه لهم : ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها ، فالهاء التي في قوله : «من بعده » من ذكر موسى . وإنما قال : «من بعد موسى » ، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده ، على ما قد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا . وقد يجوز أن تكون «الهاء » التي في «بعده » إلى ذكر المجيء ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون ، كما تقول : جئتني فكرهته يعني كرهت مجيئك .
وأما قوله : { وأنْتُمْ ظالِمُون } فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل ، وليس ذلك لكم وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لأن العبادة لا تنبغي لغير الله . وهذا توبيخ من الله لليهود ، وتعيير منه لهم ، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا ، بعد الذي علموا أن ربهم هو الربّ الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله ، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه ، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله ، فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحوده ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة أسرع ، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب .
{ ولقد جاءكم موسى بالبينات } يعني الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } { ثم اتخذتم العجل } أي إلها { من بعده } من بعد مجيء موسى ، أو ذهابه إلى الطور { وأنتم ظالمون } حال ، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله تعالى ، أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم . ومساق الآية أيضا لإبطال قولهم { نؤمن بما أنزل علينا } والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام ، لا لتكرير القصة وكذا ما بعده .