قوله تعالى : { ويخرون للأذقان يبكون } أي : يقعون على الوجوه يبكون ، البكاء مستحب عند قراءة القرآن ، { ويزيدهم } ، نزول القرآن ، { خشوعاً } ، خضوعاً لربهم . نظيره قوله تعالى : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [ مريم – 58 ] .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو عمروا بن بكر محمد المزني ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد ، حدثنا الحسن بن الفضل البجلي ، أنبأنا عاصم ، عن علي بن عاصم ، حدثنا المسعودي ، هو عبد الرحمن بن عبد الله ، عن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً " .
أخبرنا أبو القاسم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنبأنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن ، أنبأنا أحمد بن بكر بن محمد بن حمدان ، حدثنا محمد بن يونس الكديمي ، أنبأنا عبد الله بن محمد الباهلي ، حدثنا أبو حبيب الغنوي ، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرمت النار على ثلاث أعين : عين بكت من خشية الله ، وعين سهرت في سبيل الله ، وعين غضت عن محارم الله " .
{ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ } أي : على وجوههم { يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعًا }
وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره ، ممن أمن{[479]} في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك .
ثم كرر - سبحانه - مدحه لهم فقال : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } أى سماع القرآن { خشوعاً } وخضوعاً لله - عز وجل .
وكرر - سبحانه - خرورهم على وجوههم ساجدين لله - تعالى - لاختلاف السبب ، فهم أولا أسرعوا بالسجود لله تعظيماً له - سبحانه - وشكراً له على إنجازه لوعده .
وهم ثانياً أسرعوا بالسجود ، لفرط تأثرهم بمواعظ القرآن الكريم .
فأنت ترى هاتين الآيتين قد أمرتا النبى صلى الله عليه وسلم بالإِعراض عن المشركين ، وباحتقارهم وبازدراء شأنهم ، فإن الذين هم خير منهم وأفضل وأعلم قد آمنوا .
وفى ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأن الله - تعالى - يقول له : يا محمد تَسلَّ عن إيمان هؤلاء الجهلاء ، بإيمان العلماء .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هاتين الآيتين أن البكاء من خشية الله ، يدل على صدق الإِيمان ، وعلى نقاء النفس ، ومن الأحاديث التى وردت فى فضل ذلك ، ما أخرجه الترمذى عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس فى سبيل الله " .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بآيتين دالتين على تفرده - سبحانه - بالتقديس والتعظيم والتمجيد والعبادة ، فقال - تعالى - : { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً } .
ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه ، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ : ( ويخرون للأذقان يبكون ) . . ( ويزيدهم خشوعا ) فوق ما استقبلوه به من خشوع .
إنه مشهد مصور لحالة شعورية غامرة ، يرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه ؛ العارفة بطبيعته وقيمته بسبب ما أوتيت من العلم قبله . والعلم المقصود هو ما أنزله الله من الكتاب قبل القرآن ، فالعلم الحق هو ما جاء من عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
يقول تعالى ذكره : ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان ، إذا يُتْلَى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون ، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا ، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته ، واستكانة له . حدثنا أحمد بن منيع ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا مِسْعر ، عن عبد الأعلى التيميّ ، أن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ، لأن الله نعت العلماء فقال إنّ الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ للأَذْقانِ . . . الاَيتين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن مسعر بن كدام ، عن عبد الأعلى التيمي بنحوه ، إلاّ أنه قال : إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ للأَذْقانِ ثم قال : ويَخِرّونَ للأَذْقانِ يَبْكُونَ . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ويَخُرّونَ للأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا . قال : هذا جواب وتفسير للاَية التي في كهيعص إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُ الرّحْمَنَ خَرّوا سُجّدا وَبُكِيّا .
هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئاً أن يجري إلى هذه الرتبة ، وحكى الطبري عن التميمي{[7731]} أنه قال : إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه ، لأن الله تعالى نعت العلماء ، ثم تلا هذه الآية كلها ،
وقوله : { ويخرون للأذقان يبكون } تكرير للجملة باختلاف الحال المقترنة بها ، أعيدت الجملة تمهيداً لذكر الحال . وقد يقع التكرير مع العطف لأجل اختلاف القيود ، فتكون تلك المغايرة مصححة العطف ، كقول مُرة بن عَداء الفقعسي :
فَهَلاّ أعدُّوني لِمثلي تفاقدوا *** إذا الخصم أبْزى مائلُ الرأس أنكبُ
وهلا أعدوني لِمثلي تفاقدوا *** وفي الأرض مبثوث شُجاع وعقربُ
فالخرور المحكي بالجملة الثانية هو الخرور الأول ، وإنما خروا خروراً واحداً ساجدين باكين ، فذكر مرتين اهتماماً بما صحبه من علامات الخشوع .
وذكر { يبكون } بصيغة المضارع لاستحضار الحالة .
والبكاء بكاء فرح وبهجة . والبكاء : يحصل من انفعال باطني ناشىء عن حزن أو عن خوف أو عن شوق .
ويزيدهم القرآن خشوعاً على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم .
ومن السنة سجود القارىء والمستمع له بقصد هذه الآية اقتداء بأولئك الساجدين بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع القرآن إلا وهو يرى نفسه أجدر بالسجود عند تلاوة القرآن .