التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعٗا۩} (109)

{ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ مُبَشِّرًا ونَذِيرًا 105 وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً 106 قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً 108 ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا 109 } [ 105 109 ] .

لم يرو المفسرون رواية ما فيها اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات ، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده ؛ لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ؛ حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق ، وقد احتوت من جهة توكيدا بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلانه ، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا ، وأنزل عليه القرآن فصولا ؛ ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها ، ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة ، وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم ، وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل ، حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه ، ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين .

تعليق على الآية

{ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ }

والآيات الأربع التالية لها

وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن ، وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس . وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ ؛ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم ، وأن يقول لهم : إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه . ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما .

وفي الآيات دليل جديد على كون ( القرآن ) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها ؛ لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك .

والآيات [ 107 109 ] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به . ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة وهم المقصودون بالذين أوتوا العلم وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية . وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله ، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها .

ووصف { الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم . وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط ، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم . ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [ 52 55 ] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها ، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم ومآربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية .

وجملة { إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير . ولقد جاء في آية الأعراف [ 157 ] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل ، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا : إن الله قد صدق وعده في إرساله . وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم و بكاءهم .