{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً . . . } أى : إنا أرسلنا عليهم ريحا شديدة البرودة والقوة ، ذات صوت هائل .
{ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } أى : فى يوم مشئوم عليهم ، وشؤمه دائم ومستمر لم ينقطع عنهم حتى دمرهم .
قال ابن كثير : قوله : { مُّسْتَمِرٍّ } أى : مستمر عليهم نحسه ودماره ، لأنه يوم اتصل فيهم عذابهم الدنيوى بالأخروى .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } وإضافة " يوم " إلى " نحس " من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه ، كقولهم : يوم فتح خيبر .
والمراد أنه يوم منحوس ومشئوم بالنسبة لهؤلاء المهلكين ، وليس المراد أنه يوم منحوس بذاته ، لأنه الأيام يداولها الله - تعالى - بين النسا ، بمقتضى إرادته وحكمته .
كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب :
( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر . تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) . . والريح الصرصر : الباردة العنيفة . وجرس اللفظ يصور نوع الريح . والنحس : الشؤم . وأي نحس يصيب قوما أشد مما أصاب عاد . والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم . فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها ? !
والمشهد مفزع مخيف ، وعاصف عنيف . والريح التي أرسلت على عاد " هي من جند الله " وهي قوة من قوى هذا الكون ، من خلق الله ، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره ؛ وهو يسلطها على من يشاء ، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس ، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني ، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله . صاحب الأمر وصاحب الناموس :
وقوله : إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا يقول تعالى ذكره : إنا بعثنا على عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بالله ريحا صرصرا ، وهي الشديدة العصوف في برد ، التي لصوتها صرير ، وهي مأخوذة من شدة صوت هبوبها إذا سمع فيها كهيئة قول القائل : صرّ ، فقيل منه : صرصر ، كما قيل : فكبكبوا فيها ، من فكبوا ، ونَهْنَهْت من نَهَهْتُ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : رِيحا صَرْصَرا قال : ريحا باردة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا والصّرصر : الباردة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : الصّرصر : الباردة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : رِيحا صَرْصَرا باردة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان رِيحا صَرْصَرا قال : شديدة ، والصرصر : الباردة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : رِيحا صَرْصَرا قال : الصرصر : الشديدة .
وقوله : فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرَ يقول : في يوم شرّ وشؤم لهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : النّحْس : الشؤم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فِي يَوْمِ نَحْسٍ قال النحس : الشرّ فِي يَوْمِ نَحْسٍ فِي يوم شرّ .
وقد تأوّل ذلك آخرون بمعنى شديد ، ومن تأوّل ذلك كذلك فإنه يجعله من صفة اليوم ، ومن جعله من صفة اليوم ، فإنه ينبغي أن يكون قراءته بتنوين اليوم ، وكسر الحاء من النّحْس ، فيكون «فِي يَوْمٍ نَحِسٍ » كما قال جلّ ثناؤه فِي أيّامٍ نَحِساتٍ ولا أعلم أحدا قرأ ذلك كذلك في هذا الموضع ، غير أن الرواية التي ذكرت في تأويل ذلك عمن ذكرت عنه على ما وصفنا تدلّ على أن ذلك كان قراءة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فِي يَوْمِ نَحْسٍ قال : أيام شداد .
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فِي يَوْمِ نَحْسٍ يوم شديد .
وقوله : مُسْتَمِرَ يقول : في يوم شرّ وشؤم ، استمرّ بهم البلاء والعذاب فيه إلى أن وافى بهم جهنم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرَ يستمرّ بهم إلى نار جهنم .
و : «الصرصر » قال ابن عباس وقتادة معناه الباردة وهو الصر . وقال جماعة من المفسرين معناه : المصوتة نحو هذين الحرفين مأخوذ من صوت الريح إذا هبت دفعاً ، كأنها تنطق بهذين الحرفين ، الصاد والراء ، وضوعف الفعل كما قالوا : كبكب وكفكف من كب وكب ، وهذا كثير ، ولم يختلف القراء في سكون الحاء من «نحْس » وإضافة اليوم إليه إلا ما روي عن الحسن أنه قرأ : «في يومٍ » بالتنوين و : «نحِس » بكسر الحاء . و { مستمر } معناه : متتابع ، قال قتادة : استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم . قال الضحاك في كتاب الثعلبي المعنى كان مراً عليهم ، وذكره النقاش عن الحسن ، وروي أن ذلك اليوم الذي كان لهم فيه { نحس مستمر } كان يوم أربعاء ، وورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية : { يوم نحس مستمر } : يوم الأربعاء ، فتأول في ذلك بعض الناس أنه يصحب في الزمن كله ، وهذا عندي ضعيف وإن كان الدولابي أبو بشر قد ذكر حديثاً رواه أبو جعفر المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر »{[10775]} ، ويوجد نحو هذا في كلام الفرس والأعاجم ، وقد وجد ذكر الأربعاء التي لا تدور في شعر لبعض الخراسانيين المولدين ، وذكر الثعلبي عن زر بن حبيش في تفسير هذا اليوم لعاد أنه كل يوم أربعاء لا تدور ، وذكره النقاش عن جعفر بن محمد وقال : كان القمر منحوساً بزحل وهذه نزعة سوء عياذاً بالله أن تصح عن جعفر بن محمد .
وجملة { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } الخ بيان للإجمال الذي في قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } . وهو في صورة جواب للاستفهام الصوري . وكلتا الجملتين يفيد تعريضاً بتهديد المشركين بعذاب على تكذيبهم .
وجملة البيان إنما اتصف حال العذاب دون حال الإِنذار ، أو حال رسولهم وهو اكتفاء لأن التكذيب يتضمن مجيء نذير إليهم وفي مفعول { كذبت } المحذوف إشعار برسولهم الذي كذبوه وبعث الرسول وتكذيبهم إياه بتضمن الإِنذار لأنهم لما كذبوه حق عليه إنذارهم .
وتعدية إرسال الريح إلى ضميرهم هي كإسناد التكذيب إليهم بناء على الغالب وقد أنجى الله هوداً والذين معه كما علمت آنفاً أو هو عائد إلى المكذبين بقرينة قوله : { كذبت عاد } .
والصرصر : الشديدة القوية يكون لها صوت ، وتقدم في سورة فصّلت .
وأريد ب { يوم نحس } أول أيام الريح التي أرسلت على عاد إذ كانت سبعة أيام إلا يوماً كما في قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات } في سورة فصّلت ( 16 ) وقوله : { سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } في سورة الحاقة ( 7 ) .
وإضافة يوم } إلى { نحس } من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه كقولهم يوم تحلاق اللمم ، ويوم فتح مكة . وإنما يضاف اليوم إلى النحس باعتبار المنحوس ، فهو يوم نحس للمعذبين يوم نصر للمؤمنين ومصائب قوم عند قوم فوائد . . وليس في الأيام يوم يوصف بنحس أو بسعد لأن كل يوم تحدث فيه نحوس لقوم وسعود لآخرين ، وما يروى من أخبار في تعيين بعض أيام السنة للنحس هو من أغلاط القصاصين فلا يلقي المسلم الحق إليها سمعه .
واشتهر بين كثير من المسلمين التشاؤم بيوم الأربعاء . وأصل ذلك انجرّ لهم من عقائد مجوس الفرس ، ويسمون الأربعاء التي في آخر الشهر « الأربعاء التي لا تدور » ، أي لا تعود ، أرادوا بهذا الوصف ضبط معنى كونها آخر الشهر لئلا يظن أنه جميع النصف الأخير منه وإلاّ فأيّة مناسبة بين عدم الدوران وبين الشؤم ، وما من يوم إلاّ وهو يقع في الأسبوع الأخير من الشهر ولا يدور في ذلك الشهر .
ومن شعر بعض المولدين من الخراسانيين :
لقاؤك للمبكِّر فَألُ سوء *** ووجهك أربعاءُ لا تدور
و { مستمر } : صفة { نحس } ، أي نحس دائم عليهم فعُلِم من الاستمرار أنه أبادهم إذ لو نجوا لما كان النحس مستمراً . وليس { مستمر } صفة ل { يوم } إذ لا معنى لوصفه بالاستمرار .
والكلام في اشتقاق مستمر تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 2 ] .
ويجوز أن يكون مشتقاً من مرّ الشيء قاصراً ، إذا كان مُرّاً ، والمرارة مستعارة للكراهية والنفرة فهو وصف كاشف لأن النحس مكروه .