ثم أقسم - سبحانه - مرة أخرى بالسماء على أن القرآن من عنده - تعالى - فقال : { والسمآء ذَاتِ الرجع . والأرض ذَاتِ الصدع . إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ . وَمَا هوَ بالهزل } .
والرجع : المطر . وسمى بذلك لأنه يجئ ويرجع ويتكرر ، وقيل : الرجع هنا : الشمس والقمر والنجوم ، يرجعن فى السماء حيث تطلع من ناحية ، وتغيب فى الأخرى .
وقيل : المراد بالرجع : الملائكة ، لأنهم يرجعون إليها حاملين أعمال العباد .
والصدع : الشق والانفطار ، يقال : تصدع الشئ ، إذا تشقق . . والمراد به هنا : ما تتشقق عنه الأرض من نبات . كما قال - تعالى - : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً . ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً . فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً . وَعِنَباً وَقَضْباً } أى : وحق السماء صاحبة المطر الذى ينزل من جهتها مرة فأخرى ، لنفع العباد والحيوان والنبات . . وحق الأرض ذات النبات البازغ من شقوقها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالسّمَآءِ ذَاتِ الرّجْعِ * وَالأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ * إِنّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ * إِنّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } .
يقول تعالى ذكره : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ ترْجع بالغيوم وأرزاق العباد كلّ عام ومنه قول المتنخّل في صفة سيف :
أبْيَضُ كالرّجْعِ رَسُوبٌ إذَا *** ما ثاخَ فِي مُحْتَفَلٍ يَخْتَلِي
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ قال : السحاب فيه المطر .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن خَصِيف ، عن عكِرمة ، عن ابن عباس في قوله : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ قال : ذات السحاب فيه المطر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ يعني بالرجع : القطر والرزق كلّ عام .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ قال : ترجع بأرزاق الناس كلّ عام قال أبو رجاء : سُئل عنها عكرِمة ، فقال : رجعت بالمطر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ذَاتِ الرّجْعِ قال : السحاب يمطر ، ثم يَرجع بالمطر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ قال : ترجع بأرزاق العباد كلّ عام ، لولا ذلك هَلكوا وهلَكت مواشيهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ قال : ترجع بالغيث كلّ عام .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ يعني : المطر .
وقال آخرون : يعني بذلك : أن شمسها وقمرها يغيب ويطلُع . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ قال : شمسها وقمرها ونجومها يأتين من ها هنا .
{ السماء } في هذا القسم يحتمل أن تكون المعرفة ، ويحتمل أن تكون السحاب ، و { الرجع } المطر وماؤه ، ومنه قول الهذلي : [ السريع ]
أبيض كالرجع وسوب إذا . . . ما شاخ من محتفل يختلي{[11740]}
وقال ابن عباس : { الرجع } ، السحاب فيه المطر ، قال الحسن : لأنه يرجع بالرزق كل عام ، قال غيره لأنه يرجع إلى الأرض ، وقال ابن زيد : { الرجع } مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ، ومنه منزلة تذهب وترجع
بعد أن تبين الدليل على إمكان البعث أعقب بتحقيق أن القرآن حق وأن ما فيه قول فصل إبطالاً لما مُوِّه عليهم من أن أخباره غير صادقة إذ قد أخبرهم بإحياء الرمم البالية .
فالجملة استئناف ابتدائي لغرض من أغراض السورة .
وافتتح الكلام بالقَسم تحقيقاً لصدق القرآن في الإِخبار بالبعث وفي غير ذلك مما اشتمل عليه من الهدى . ولذلك أعيد القَسَم ب { السماء } كما أقسم بها في أول السورة ، وذكر من أحوال السماء ما له مناسبة بالمقسم عليه ، وهو الغيث الذي به صلاح الناس ، فإن إصلاح القرآن للناس كإصلاح المطر . وفي الحديث : " مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغَيث الكثير أصاب أرضاً " . الحديث .
وفي اسم الرجع مناسبة لمعنى البعث في قوله : { إنه على رجعه لقادر } [ الطارق : 8 ] وفيه محسن الجناس التام وفي مسمى الرجع وهو المطر المعاقب لمطر آخر مناسبة لمعنى الرجع البعث فإن البعث حياة معاقبة بحياة سابقة .