{ وما يذكرون } قرأ نافع ويعقوب " تذكرون " بالتاء والآخرون بالياء ، { إلا أن يشاء الله } قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى . { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا هدية بن خالد ، حدثنا سهيل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } قال : قال ربكم عز وجل : أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري ، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له " وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي ، أخو حزم القطعي .
{ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإن مشيئته{[1288]} نافذة عامة ، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير ، ففيها رد على القدرية ، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله ، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة ، ولا فعل حقيقة ، وإنما هو مجبور على أفعاله ، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا ، وجعل ذلك تابعا لمشيئته ، { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } أي : هو أهل أن يتقى ويعبد ، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه . تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد{[1289]} .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال : { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } .
أى : فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك ، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ . لا يتم بمجرد مشيئتكم ، وإنما يتم فى حال مشيئة الله - تعالى - وإرادته ، فهو - سبحانه - أهل التقوى ، أى : هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه ، وهو - عز وجل - " أهل المغفرة " أى : هو - وحده - صاحب المغفرة لذنوب عباده ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فالمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن ، لا يتم إلا بعد إرادة الله - تعالى - ومشيئة ، لأنه هو الخالق لكل شئ ، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله ، التى لا يعلمها أحد سواه .
أخرج الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } فقال : قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله ، فمن اتقانى فلم يجعل معى إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " .
وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية ، وعودة الأمور إليها في النهاية . وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير ، وراء جميع الأحداث والأمور :
( وما يذكرون إلا أن يشاء الله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) . .
فكل ما يقع في هذا الوجود ، مشدود إلى المشيئة الكبرى ، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها . فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته ، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله ، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه ، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد .
والذكر توفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . فإذا علم من العبد صدق النية وجهه إلى الطاعات .
والعبد لا يعرف ماذا يشاء الله به . فهذا من الغيب المحجوب عنه . ولكنه يعرف ماذا يريد الله منه ، فهذا مما بينه له . فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلف أعانه الله ووجهه وفق مشيئته الطليقة .
والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة ، وإحاطتها بكل مشيئة ، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصا ، والاستسلام لها ممحضا . . فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها . وإذا استقرت فيه كيفته تكييفا خاصا من داخله ، وأنشأت فيه تصورا خاصا يحتكم إليه في كل أحداث الحياة . . وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار ، وبهدى أو ضلال .
فأما أخذ هذا الإطلاق ، والانحراف به إلى جدل حول الجبر والاختيار ، فهو اقتطاع لجانب من تصور كلي وحقيقة مطلقة ، والتحيز بها في درب ضيق مغلق لا ينتهي إلى قول مريح . لأنها لم تجيء في السياق القرآني لمثل هذا التحيز في الدرب الضيق المغلق !
( وما يذكرون إلا أن يشاء الله ) . . فهم لا يصادمون بمشيئتهم مشيئة الله ، ولا يتحركون في اتجاه ، إلا بإرادة من الله ، تقدرهم على الحركة والاتجاه .
والله ( هو أهل التقوى ) . . يستحقها من عباده . فهم مطالبون بها . .
( وأهل المغفرة ) . . يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .
والتقوى تستأهل المغفرة ، والله - سبحانه - أهل لهما جميعا .
بهذه التسبيحة الخاشعة تختم السورة ، وفي النفس منها تطلع إلى وجه الله الكريم ، أن يشاء بالتوفيق إلى الذكر ، والتوجيه إلى التقوى ، والتفضل بالمغفرة .
وقوله : فَمَن شاءَ ذَكَرَه يقول تعالى ذكره : فمن شاء من عباد الله الذين ذكرهم الله بهذا القرآن ذكره ، فاتعظ فاستعمل ما فيه من أمر الله ونهيه وَما يَذْكُرُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول تعالى ذكره : وما يذكرون هذا القرآن فيتعظون به ، ويتسعملون ما فيه ، إلا أن يشاء الله أن يذكروه ، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بأن يشاء الله يقدره عليه ، ويعطيه القدرة عليه .
وقوله : هُوَ أهْلُ التّقْوَى وأهْلُ المَغْفِرَةِ يقول تعالى ذكره : الله أهل أن يتقي عبادُه عقابهَ على معصيتهم إياه ، فيجتنبوا معاصيه ، ويُسارعوا إلى طاعته ، وأهل المغفرة يقول : هو أهل أن يغفر ذنوبهم إذا هم فعلوا ذلك ، ولا يعاقبهم عليها مع توبتهم منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة هُوَ أهْلُ التّقْوَى وأهْلُ المَغْفِرَةِ ربنا محقوق أن تتقي محارمه ، وهو أهل المغفرة يغفر الذنوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله هُوَ أهْلُ التّقْوَى وأهْلُ المَغْفِرَةِ قال : أهل أن تتقي محارمه ، وأهل المغفرة : أهل أن يغفر الذنوب .