قوله تعالى :{ وكم أهلكنا من قرية } أي من أهل قرية ، { بطرت معيشتها } أي : في معيشتها ، أي : أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافرون ومارو الطريق ، يوماً أو ساعة ، معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً قليلاً . وقيل : معناه : لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، { وكنا نحن الوارثين } كقوله : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي : فخرت بها ، وألهتها ، واشتغلت بها عن الإيمان بالرسل ، فأهلكهم اللّه ، وأزال عنهم النعمة ، وأحل بهم النقمة . { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا } لتوالي الهلاك والتلف عليهم ، وإيحاشها من بعدهم .
{ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } للعباد ، نميتهم ، ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم ، ثم نعيدهم{[608]} إلينا ، فنجازيهم بأعمالهم .
ثم بين - سبحانه - الأسباب الحقيقية التى تؤدى إلى زوال النعم ، التى من بينها نعمة الأمان والاطمئنان ، فقال - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } .
وكم هنا خبرية للتكثير ، و { بَطِرَتْ } من البطر ، بمعنى الأشر والغرور واستعمال نعم الله - تعالى - فى غير ما خلقت له .
أى : وكثيرا من أهل قرى كانت أحوالهم كحال أهل مكة فى الأمن وسعة الرزق ، فلما بطروا معيشتهم ، واستعملوا نعمنا فى الشر لا فى الخير ، وفى الفسوق لا فى الطاعة ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم وقراهم تدميرا .
إذاً فبطر النعمة وعدم الشكر عليها ، هو السبب الحقيقى فى الهلاك ، وليس اتباع الهدى ، كما زعم أولئك المشركون الجاهلون .
قال القرطبى : " بين - سبحانه - لمن توهم ، أنه لو آمن لقاتلته العرب وتخطفته ، أن الخوف فى ترك الإيمان أكثر ، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار . والبطر : الطغيان بالنعمة " .
و { مَعِيشَتَهَا } أى : فى معيشتها ، فلما حذف " فى " تعدى الفعل ، كما فى قوله - تعالى - : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً }
ثم بين - سبحانه - مآل مساكن هؤلاء الطاغين فقال : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : فتلك مساكن هؤلاء الطغاة ترونها يا أهل مكة فى أسفاركم - إنها لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا ، كالذى يرتاح بها وهو مسافر ثم يتركها إلى غير عودة إليها ، لأنها صارت غير صالحة لذلك لشؤمها .
{ وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } أى : وكنا نحن وحدنا الوارثين لها منهم ، لأنهم لم يتركوا أحدا يرث منازلهم وأموالهم ، أو لأنها صارت خرابا لا تصلح للسكن .
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا ، وأن يأمنوا التخطف حقا ، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها :
( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ، وكنا نحن الوارثين ) . .
إن بطر النعمة ، وعدم الشكر عليها ، هو سبب هلاك القرى . وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن ؛ فليحذروا إذن أن يبطروا ، وألا يشكروا ، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها ، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية . . ( لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ) . وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها ، وتروي قصة البطر بالنعمة ؛ وقد فنى أهلها فلم يعقبوا أحدا ، ولم يرثها بعدهم أحد ( وكنا نحن الوارثين ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.