فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

{ وكم أهلكنا من قرية } أي : أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء ، رد لقولهم : إن نتبع الهدى معك نتخطف الخ بيّن الله بهذا أن الأمر بالعكس ، وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله ولا يغتروا بالأمن الحاصل لهم فكثير من أهل القرى كان حالهم كحال هؤلاء من الأمن والخصب .

ثم { بطرت } أي : طغت وتمردت وخسرت وأشرت { معيشتها } أي في زمن حياتها ، وقال الكرخي : كفرت نعمة معيشتها ، أي أيام حياتها وهي ما يعاش به من النبات والحيوان وغيرهما ، يعني وقع منهم البطر فأهلكوا قال الزجاج البطر الطغيان عند النعمة .

وفي القاموس : البطر محركا النشاط و الأشر وقلة احتمال النعمة ، والدهش والحيرة والطغيان ، بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة ، وفعل الكل كفرح ، وبطر الحق أي : تكبر عنده فلا يقبله .

قال عطاء : عاشوا في البطر ؛ فأكلوا رزق الله ، وعبدوا الأصنام . وقال الزجاج والمازني معناها بطرت في معيشتها فلما حذفت ( في ) تعدى الفعل كقوله واختيار موسى قومه ، وقال الفراء : هو منصوب على التفسير كما تقول بطرك مالك ، وبطرته ، ونظيره قوله تعالى ؛ إلا من سفه نفسه ، ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين ، لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس . وقيل : إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت .

{ فتلك مساكنهم } أي منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود ، وقوم شعيب وغيرهم ، قد خربت بما ظلموا .

{ لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } أي : لم يسكنها أحد بعدهم إلا زمنا قليلا كالذي يمر بها مسافرا فإنه يلبث ما وقع يوما أو بعض يوم أو المعنى : لم يبق من يسكن فيها إلا أياما قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم ، وقيل إن الاستثناء يرجع إلى المساكن أي : لم تسكن بعد هلاك أهلها إلا قليلة من المساكن ، وأكثرها خراب ، كذا قال الفراء خراب ، وهو قول ضعيف .

{ وكنا نحن الوارثين } لها منهم لأنهم لم يتركوا وارثا يرث منازلهم وأموالهم ، ولم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وغيرها .