جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وكم أهلكنا من قرية أبطرتها معيشتها ، فبَطِرت ، وأَشِرت ، وطَغَت ، فكفرت ربها . وقيل : بطرت معيشتها ، فجعل الفعل للقرية ، وهو في الأصل للمعيشة ، كما يقال : أَسْفَهَك رأيك فسَفِهته ، وأبطرك مالك فبطِرته ، والمعيشة منصوبة على التفسير .

وقد بيّنا نظائر ذلك في غير موضع من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وكَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها قال : البطر : أَشَرّ أهل الغفلة وأهل الباطل والركوب لمعاصي الله ، وقال : ذلك البطر في النعمة فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلاّ قَلِيلاً يقول : فتلك دور القوم الذين أهلكناهم بكفرهم بربهم ومنازلهم ، لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلاً ، يقول : خربت من بعدهم ، فلم يعمر منها إلاّ أقلها ، وأكثرها خراب . ولفظ الكلام وإن كان خارجا على أن مساكنهم قد سُكِنت قليلاً ، فإن معناه : فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلاً منها ، كما يقال : قضيت حقك إلاّ قليلاً منه .

وقوله : وكُنّا نَحْنُ الوَارِثِينَ يقول : ولم يكن لما خرّبنا من مساكنهم منهم وارث ، وعادت كما كانت قبل سُكناهم فيها ، لا مالك لها إلاّ الله ، الذي له مِيراث السموات والأرض .