قوله تعالى : { وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه } ، فأطيعوه .
قوله تعالى : { وهو على كل شيء وكيل } ، بالحفظ له والتدبير .
قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } ، يتمسك أهل الاعتزال بظاهر هذه الآية في نفي رؤية الله عز وجل عياناً ، ومذهب أهل السنة : إثبات رؤية الله عز وجل عياناً ، قال الله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة :23 ] ، وقال : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين :15 ] ، قال مالك رضي الله عنه : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب .
وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ، وفسره بالنظر إلى وجه الله عز وجل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يوسف بن موسى ، ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي ، أنا أبو شهاب ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ابن حازم ، عن جرير بن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم عياناً ) .
{ اللَّهُ رَبُّكُمْ }أي : المألوه المعبود ، الذي يستحق نهاية الذل ، ونهاية الحب ، الرب ، الذي ربى جميع الخلق بالنعم ، وصرف عنهم صنوف النقم . { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي : إذا استقر وثبت ، أنه الله الذي لا إله إلا هو ، فاصرفوا له جميع أنواع العبادة ، وأخلصوها لله ، واقصدوا بها وجهه . فإن هذا هو المقصود من الخلق ، الذي خلقوا لأجله { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : جميع الأشياء ، تحت وكالة الله وتدبيره ، خلقا ، وتدبيرا ، وتصريفا .
ومن المعلوم ، أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه ، وكمال انتظامه ، بحسب حال الوكيل عليه . ووكالته تعالى على الأشياء ، ليست من جنس وكالة الخلق ، فإن وكالتهم ، وكالة نيابة ، والوكيل فيها تابع لموكله .
وأما الباري ، تبارك وتعالى ، فوكالته من نفسه لنفسه ، متضمنة لكمال العلم ، وحسن التدبير والإحسان فيه ، والعدل ، فلا يمكن لأحد أن يستدرك على الله ، ولا يرى في خلقه خللا ولا فطورا ، ولا في تدبيره نقصا وعيبا .
ومن وكالته : أنه تعالى ، توكل ببيان دينه ، وحفظه عن المزيلات والمغيرات ، وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم .
وبعد أن أبطل - سبحانه - الشرك ونعى على معتنقيه سوء تفكيرهم ، دعا المكلفين إلى إخلاص العبودية لله وحده فقال - تعالى - :
{ ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه } .
أى ذلكم الموصوف بما سمعتم من جلائل الصفات هو الله ربكم لا من زعمتم من الشركاء ، فأخلصوا له العبادة فهو - سبحانه - الخالق لكل شىء وما عداه فهو مخلوق يجب أن يعبد خالقه .
وقوله { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أى وهو مع تلك الصفات الجليلة رقيب على عباده حفيظ عليهم ، يدبر أمرهم ، ويتولى جميع شئونهم .
وكما واجههم السياق القرآني بحقيقة أن الله ( خلق كل شيء ) ، ليرتب عليها تهافت تصوراتهم بأن لله - سبحانه - بنين وبنات ، أو أن له شركاء الجن - وهو خلقهم - فإنه يتكى ء على هذه الحقيقة مرة أخرى . لتقرير أن الذي يعبد ويخضع له ويطاع ، ويعترف له بالدينونة وحده هو خالق كل شيء ، فلا إله إذن غيره ، ولا رب إذن سواه :
( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ؛ فاعبدوه ، وهو على كل شيء وكيل ) . .
إن تفرد الله سبحانه بالخلق ، يفرده سبحانه بالملك . والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق . فهو خالق خلقه ومالكهم ، فهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه . فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله . . فإذا تقررت هذه الحقائق . . الخلق والملك والرزق . . تقرر معها - ضرورة وحتما - أن تكون الربوبية له سبحانه . فتكون له وحده خصائص الربوبية - وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يخضع له ويطاع ، والنظام الذي يتجمع عليه العباد - وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها . ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام .
ولم يكن العرب - في جاهليتهم - ينكرون أن الله هو خالق هذا الكون ، وخالق الناس ، ورازقهم كذلك من ملكه ، الذي ليس وراءه ملك تقتات منه العباد ! . . وكذلك لم تكن الجاهليات الأخرى تنكر هذه الحقائق - على قلة من الفلاسفة الماديين من الإغريق ! - ولم تكن هنالك هذه المذاهب المادية التي تنتشر اليوم بشكل أوسع مما عرف أيام الإغريق . . لذلك لم يكن الإسلام يواجه في الجاهلية العربية إلا الانحراف في التوجه بالشعائر التعبدية لآلهة - مع الله - على سبيل الزلفى والقربى من الله ! - وإلا الانحراف في تلقي الشرائع والتقاليد التي تحكم حياة الناس . . أي أنه لم يكن يواجه الإلحاد في وجود الله - سبحانه - كما يقول اليوم " ناس " ! أو كما يتبجحون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير !
والحق أن هؤلاء الذين يجادلون في وجود الله اليوم قلة . وسيظلون قلة . إنما الانحراف الأساسي هو ذاته الذي كان في الجاهلية . وهو تلقي الشرائع في شؤون الحياة من غير الله . . وهذا هو الشرك التقليدي الأساسي الذي قامت عليه الجاهلية العربية ، وكل الجاهليات أيضا !
والقلة الشاذة التي تجادل في وجود الله اليوم لا تعتمد على " العلم " وإن كانت هذه دعواها . فالعلم البشري ذاته لا يملك أن يقرر هذا الإلحاد ولا يجد عليه دليلا لا من هذا العلم ولا من طبيعة الكون . . إنما هي لوثة سببها الأول الشرود من الكنيسة وإلهها الذي كانت تستذل به الرقاب من غير أصل من الدين . . ثم نقص في التكوين الفطري لهؤلاء المجادلين ، ينشأ عنه تعطل في الوظائف الأساسية للكينونة البشرية . . كما يقع للأمساخ من المخلوقات . . !
ومع أن حقيقة الخلق والتقدير فيه - كحقيقة انبثاق الحياة أيضا - لم تكن تساق في القرآن لإثبات وجود الله - إذ كان الجدال في وجوده تعالى سخفا لا يستحق من جدية القرآن العناية به - إنما كانت تساق لرد الناس إلى الرشاد ، كي ينفذوا في حياتهم ما تقتضيه تلك الحقيقة من ضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياتهم كلها ؛ وعبادته وحده بلا شريك . .
مع هذا فإن حقيقة الخلق والتقدير فيه - كحقيقة انبثاق الحياة أيضا - تقذف في وجوه الذين يجادلون في الله - سبحانه - بالحجة الدامغة التي لا يملكون بإزائها إلا المراء . وإلا التبجح الذي يصل إلى حد الاستهتار في كثير من الأحيان !
" جوليان هاكسلي " مؤلف كتاب : " الإنسان يقوم وحده " وكتاب " الإنسان في العالم الحديث " من هؤلاء المتبجحين المستهترين ؛ وهو يقذف بالمقررات التي لا سند لها إل هواه وهو يقول في كتاب " الإنسان في العالم الحديث " ؛ في فصل : " الدين كمسألة موضوعية " ذلك الكلام !
" ولقد أوصلنا تقدم العلوم والمنطق وعلم النفس إلى طور أصبح فيه الإله فرضا عديم الفائدة ، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا ، حتى اختفى كحاكم مدبر للكون ، وأصبح مجرد " أول سبب " أو أساسا عاما غامضًا .
و " ول ديورانت " مؤلف كتاب " مباهج الفلسفة " يقول : إن الفلسفة تبحث عن الله ، ولكنه ليس " إله اللاهوتيين الذين يتصورونه خارج عالم الطبيعة . بل إله الفلاسفة ؛ وهو قانون العالم وهيكله ، وحياته ومشيئته " . . وهو كلام لا تستطيع إمساكه ! ولكنه كلام يقال !
ونحن لا نحاكم هؤلاء الخابطين في الظلام إلى قرآننا ، ولا نحاكمهم كذلك إلى عقولنا المنضبطة بهدى هذا القرآن . إنما نكلهم إلى أندادهم من " العلماء " وإلى العلم البشري الذي يواجه هذه القضية بشيء من الجد والتعقل . .
يقول جون كليفلاند كوتران : [ من علماء الكيمياء والرياضة . دكتوراه من جامعة كورنيل . رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث ] . من مقال : " النتيجة الحتمية " من كتاب : " الله يتجلى في عصر العلم " :
" فهل يتصور عاقل ، أو يفكر ، أو يعتقد ، أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة ؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين ، ثم فرضته على نفسها ؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبيا . بل إن المادة عندما تتحول إلى طاقة أو تتحول الطاقة إلى مادة ، فإن كل ذلك يتم طبقا لقوانين معينة . والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة التي وجدت قبلها .
" وتدلنا الكيميا على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء ؛ ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسركة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة . وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية
. ومعنى ذلك أيضا أنها ليست أزلية . إذ أن لها بداية .
وتدل الشواهد من الكيميا وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية ، بل وجدت بصورة فجائية . وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد . وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بد أن يكون مخلوقا . وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان .
" فإذا كان هذا العالم المادي عاجزا عن أن يخلق نفسه ، أو يحدد القوانين التي يخضع لها ، فلا بد أن يكون الخلق قد تم بقدره كائن غير مادي . وتدل الشواهد جميعا على أن هذا الخالق لا بد أن يكون متصفا بالعقل والحكمة . إلا أن العقل لا يستطيع أن يعمل في العالم المادي - كما في ممارسة الطب والعلاج السيكلوجي - دون أن يكون هنالك إرادة . ولا بد لمن يتصف بالإرادة أن يكون موجودا وجودا ذاتيا . . وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقا فحسب ، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيما عليما قادرا على كل شيء ، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره ؛ ولا بد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود ، تتجلى آياته في كل مكان . وعلى ذلك فإنه لا مفر من التسليم بوجود الله ، خالق هذا الكون وموجهه - كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال .
" إن التقدم الذي أحرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل ، ما قاله من قبل ، من أننا إذا فكرنا تفكيرا عميقا ، فإن العلوم سوف تضطرنا إلى الإيمان بالله " . .
ويقول فرانك أللن عالم الطبيعة البيولوجية في مقال " نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد " من الكتاب نفسه :
" كثيرا ما يقال : إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق . ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود ، فكيف نفسر وجوده ؟ . . هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال : فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال - وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده - وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم . وإما أن يكون أزليا ليس لنشأته بداية . وإما أن يكون له خالق .
أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس ، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهما من الأوهام ، ليس له ظل من الحقيقة . ولقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيرا سير جيمس جينز ، الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي ، وأنه مجرد صورة في أذهاننا . وتبعا لهذا الرأي نستطيع أن نقول : إننا نعيش في عالم من الأوهام ! فمثلا هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات ؛ وبها ركاب وهميون ، وتعبر أنهارا لا وجود لها ، وتسير فوق جسور غير مادية . . الخ . وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشته أو جدال !
" أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم ، بما فيه من مادة وطاقة ، قد نشأ هكذا وحده من العدم ، فهو لا يقل عن سابقه سخفا وحماقة ؛ ولا يستحق هو أيضا أن يكون موضعا للنظر أو المناقشة .
" والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية ، إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون - وذلك في عنصر واحد هو الأزلية - وإذن فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت ، وإما أن ننسبها إلى إله حي يخلق ، وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر . ولكن قوانين " الديناميكا الحرارية " تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا ، وأنها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض ، هي الصفر المطلق ؛ ويومئذ تنعدم الطاقة ، وتستحيل الحياة . ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق ، بمضي الوقت . أما الشمس المستعرة ، والنجوم المتوهجة ، والأرض الغنية بأنواع الحياة ، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسة يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة ، فهو إذن حدث من الأحداث . . ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ، ليس له بداية ، عليم محيط بكل شيء ، قوي ليس لقدرته حدود ، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه " .
الله - سبحانه - خالق كل شيء . لا إله إلا هو . .
هذه هي القاعدة التي يقيم عليها السياق القرآني هنا وجوب عبادة الله وحده . ووجوب ربوبيته وحده - بكل مدلولات الربوبية من الحكم والتربية والتوجيه والقوامة :
( ذلكم الله ربكم . لا إله إلا هو : خالق كل شيء . فاعبدوه . وهو على كل شيء وكيل ) . .
فهي القوامة لا على البشر وحدهم ، ولكن على كل شيء كذلك . بما أنه هو خالق كل شيء . . . وهذا هو المقصود من تقرير تلك القاعدة ، التي لم يكن المشركون - في جاهليتهم - يجحدونها . ولكنهم ما كانوا يسلمون بمقتضاها . وهو : الخضوع والطاعة لحاكمية الله وحده والدينونة لسلطانه بلا شريك . .