قوله : { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء } الآية [ 103 ] .
والمعنى : فذلكم{[21084]} الذي{[21085]} ذكرت صفته هو الله ربكم ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء{[21086]} .
وقد تعلق القائلون بخلق القرآن بقوله : { خالق كل شيء } ، قالوا : القرآن شيء ، فهو داخل تحت الخلق . وقد جرت{[21087]} هذه المسألة بين عبد العزيز بن يحيى المكي{[21088]} وبين بشر ابن غياث المريسي{[21089]} بحضرة المأمون{[21090]} ، اختصرت{[21091]} الحكاية لطولها :
قال عبد العزيز : قلت لبشر : ما{[21092]} حجتك في خلق القرآن ؟ ، وانظر : إلى أحد سهم في كنانتك فأرمني به . قال{[21093]} : فقال لي بشر : تقول{[21094]} : إن القرآن شيء أم غير شيء ؟ . ( قال عبد العزيز ){[21095]} : فقلت له إن كنت تريد أنه شيء إثباتا للوجود ونفيا للعدم ، فَنَعَم هو شيء ، وإن كنت تريد{[21096]} أن الشيء اسم لذاته وأنه كالأشياء فلا . قال له بشر : قد أقْرَرْتَ أنه شيء وادّعيت أنه لا{[21097]} كالأشياء ، فأت{[21098]} بنص على ما زعمت . قال عبد العزيز : فقلت{[21099]} : قال الله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }{[21100]} ، فبقوله تكون الأشياء ، وليس هو كهي . وإنما تكون الأشياء بقوله وأمره . فقولُه خارج عن الأشياء المخلوقة ، ألا ترى إلى قوله : { ألا له الخلق والأمر }{[21101]} ، فجمع في لفظة{[21102]} ( الخلق ) جميع المخلوقات ، ثم قال : { والأمر } يريد الذي{[21103]} كانت به هذه المخلوقات كلها . والأمر غير المخلوقات ، وهو قوله : { كن }{[21104]} . وقال ( الله ){[21105]} تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد }{[21106]} أي : من قبل الخلق ومن بعد الخلق . وقد أخبر عن الأشياء المخلوقات في غير موضع من كتابه ، وأنه خلقها بأمره وقوله ، فقال تعالى : { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق }{[21107]} ، وقال : { وما خلقنا السموات والأرض [ وما بينهما ]{[21108]} إلا بالحق }{[21109]} ، والحق هو كلامه . فأمره : كلامه ، وكلامه : أمره ، وأمرُه{[21110]} : الحق ، والحق : أمره ، وكلامه : الحق ، والحق : كلامه .
فهذا يدل على أن كلامه لا كالأشياء المخلوقة ، لأنها به كانت ( وحدثت ){[21111]} . وأما ما يدل على أنه ( شيء ) فقوله : { إليَّ ولم يوح إليه }{[21112]} ، فدل على أن الوحي شيء ، ودل ما تقدم على أنه لا كالأشياء .
قال بشر : قد زعمت أن الله يخلق الأشياء ، وادّعيت أنها تكون بقوله ، وأنها تكون بالحق ، وأنها تكون بأمره ، وهذا متناقض .
قال عبد العزيز : إن قوله هو كلامه ، وقوله هو الحق ، وأمره هو كلامه : فالألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد ، /{[21113]} كما سمى كلامه : نورا وهدى وشفاء ورحمة و{ قرآنا فرقانا }{[21114]} ، وكله{[21115]} يرجع إلى شيء واحد ، [ كذلك ذاك . وكما سمى نفسه : فردا صمدا واحدا ]{[21116]} ، وهو شيء واحد{[21117]} لا كالأشياء . وهذا إنما منعه بِشْر لجهله بلغة{[21118]} العرب .
قال بشر : ( لستُ ){[21119]} أقبل لغة العرب ، ولا أقبل إلا النص .
قال عبد العزيز : فقلت{[21120]} : قال الله : { يريدون أن يبدلوا كلام الله }{[21121]} ، ثم قال{[21122]} : { كذلكم قال الله من قبل }{[21123]} ، فسمى القرآن كلامه ، ثم سماه : قوله ، وقال : { وهو الحق مصدقا لما معهم }{[21124]} ، فسمى القرآن حقا ، وقال : { وكذب به قومك وهو الحق }{[21125]} ، وقال : { لقد جاءك الحق من ربك }{[21126]} ، ومثل هذا كثير{[21127]} .
قال بشر : قد{[21128]} أقررت يا عبد العزيز أن{[21129]} القرآن شيء على صفة ما ، وقد قال تعالى : { خالق كل شيء }{[21130]} ، وهذه لفظة لم تدع شيئا من الأشياء إلا أدختله{[21131]} في الخلق ، ولا يخرج عنها شيء ، قد تَقَصَّتْ{[21132]} جميع الأشياء ، فصار القرآن مخلوقا بنص القرآن .
قال عبد العزيز : فقلت{[21133]} : قال الله : { تدمر كل شيء بأمر ربها }{[21134]} ، فهل أبقت الريح – يا بشر – شيئا لم تدمره{[21135]} ؟
قال بشر : لا . قال عبد العزيز : فقلت له : قد – والله – أكْذَب الله قائل هذا بقوله : { فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم }{[21136]} ، فأخبر أن مساكنهم كانت باقية وهي أشياء كثيرة ، وقال{[21137]} تعالى : { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم }{[21138]} ، وقد أتت على الجبال والشجر والأرض فلم تجعله رميما ، وقال عز وجل : { وأوتيت من كل شيء }{[21139]} ، يعني بلقيس{[21140]} ، فهل أوتيت ملك سليمان وهو أضعاف ملكها ؟ . فهذا تكسير{[21141]} لقولك يا بشر . ولكن ما تقول – يا بشر – في قوله تعالى : { أنزله بعلمه }{[21142]} ، وقال تعالى : { و{[21143]}لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }{[21144]} ، وقال : { أنزل بعلم الله }{[21145]} .
وقال : { ولا تضع إلا بعلمه }{[21146]} ! ، فأخبر تعالى أن له علما . أفتقر{[21147]} – يا بشر – أن له علما كما أخبر في كلامه{[21148]} أو تخالف التنزيل ؟ .
فعلم{[21149]} بشر أنه ( إن ){[21150]} قال : ( له علم ) ، فيقول له : أهو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا ؟ فإن قال : ( دخل ) ، كفر . وإن قال : لا . أجاز ما منع في الكلام . وأبى{[21151]} أن ينفي العلم فخالف{[21152]} التنزيل ، فحاد ، ثم قال : معنى علمه : أنه لايجهل .
قال عبد العزيز : لم أسألك عن هذا ، قد علمت أن الله لا يجهل ، إنما سألتك : هل تثبيت له علما كما أثبته{[21153]} لنفسه ؟ ، وليس نفيك السوء – يا بشر – عن الله يوجب{[21154]} إيجاب المدح ، لأن قولك : ( هذه الأسطوانة{[21155]} لا{[21156]} تجهل ) ليس{[21157]} هو إثباتا أن لها علما{[21158]} . ولم يمدح{[21159]} الله ملكا ( ولا نبيا ولا مؤمنا بنفي الجهل ){[21160]} ليدل على{[21161]} ( أنه ){[21162]} إثبات العلم ، وإنما مدحهم بالعلم ، فقال : { يعلمون ما تفعلون }{[21163]} ، ولم يقل : ( لا يجهلون ) ، وقال لنبيه : { ( وتعلم ){[21164]} الكاذبين }{[21165]} ، ولم{[21166]} يقل : ( ولا تجهل ) ، وقال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء }{[21167]} ، ولم يقل : ( الذين لا يجهلون ) ، فمن أثبت العلم نفى الجهل ، وليس ( كل ){[21168]} من نفى الجهل أثبت العلم ، ( و ){[21169]} على الخلق جميعا أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه .
فقل بشر : أتقول{[21170]} : { إن الله سميع بصير }{[21171]} وإن له ( سمعا وبصرا ){[21172]} كما أثبت ( له علما ){[21173]} ؟ .
قال عبد العزيز : فقلت : إنما على الناس أن يُثبتوا ما أثبت{[21174]} ، وينفوا ما نفى ، ويُمسكوا عن{[21175]} ما أمسك الله . فأخبرنا تعالى أن له علما ، فقلت : ( له علم ) ، ولم يخبرنا أن له سمعا ولا بصرا ، فأمسكنا عن ذلك .
فقال بشر : قد زعمت{[21176]} أن لله{[21177]} علما ، فما معنى علم الله ؟ .
/{[21178]} قال عبد العزيز : هذا ما لا يعلمه إلا الله ، قد تفَرَّد بذلك . وقد أمرني بشر أن أترك قول الله وأمره ، واتبع أمر{[21179]} الشيطان ، لأن الله أخبر عن الشيطان أنه ( يأمرنا أن ){[21180]} نقول{[21181]} ( على ){[21182]} الله ما لا نعلم ، وحرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم بقوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }{[21183]} ، فقد اتبع بشر طريق الشيطان ، وارتكب ما حرم الله علينا .
قال عبد العزيز : فانقطع بشر ، فقلت له : يا بشر ، ألست تقول إن لله{[21184]} نفسا بقوله : { واصطنعتك لنفسي }{[21185]} ، وبقوله : { ويحذركم الله نفسه }{[21186]} ؟ .
قال بشر : نعم له نفس كما أخبرنا .
قال عبد العزيز : فقلت له : قال الله : { كل نفس ذائقة ( الموت ){[21187]} }{[21188]} ، أفتقول{[21189]} – يا بشر – إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس المخلوقة ؟ . فأبى بشر من القول بذلك ، فقال له عبد العزيز : وكذلك كلام الله ليس بداخل في الأشياء المخلوقة . فسكت بشر .
قال عبد العزيز ثم قلت له : القرآن نزل على أربعة أخبار :
- خبر مخرجه مخرج الخصوص ، ومعناه الخصوص ، كقوله{[21190]} : { اسجدوا لآدم }{[21191]} ، وكقوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم }{[21192]} : هذا خاص في لفظه ومعناه .
- والثاني : خبر مخرجه{[21193]} مخرج العموم ، ومعناه معنى العموم ، كقوله : { وله كل شيء }{[21194]} ، فكل{[21195]} شيء له ، مخلوقا كان أو غير مخلوق ، وصفاته له ، وخلقه له .
- والثالث : خبر مخرجه العموم ومعناه الخصوص ، نحو قوله : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }{[21196]} ، و( الناس ) يجمع{[21197]} آدم وعيسى وغيرهما ، ولم يكونا من ذكر وأنثى . ومنه : { ورحمتي وسعت كل شيء }{[21198]} وهي لم تسع إبليس والكفار ، لقوله : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك }{[21199]} .
- والرابع : ( خبر ){[21200]} مخرجه الخصوص ومعناه العموم ، كقوله : { وأنه ( هو ){[21201]} رب الشعرى }{[21202]} ، فخص{[21203]} ( الشعرى ) ، والمعنى : أنه رب كل شيء : الشعرى وغيرها{[21204]} ، ولكن خصها الله باللفظ ، لأنهم كانوا يعبدونها .
فهذا اختصار بعض ما جرى بينهما{[21205]} ، فنرجع{[21206]} إلى ما كنا فيه . قوله : { وهو على كل شيء وكيل }{[21207]} : قال الفراء : الوكيل : الكافي{[21208]} . ومنه قولهم : ( { حسبنا الله ونعم الوكيل }{[21209]} ، أي : كافينا الله ونعم الكافي ){[21210]} . وقال قتادة : الوكيل : الحفيظ{[21211]} . وقيل : الوكيل : الولي{[21212]} . وقيل : الرب{[21213]} . وقيل : الكفيل{[21214]} .