اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ} (102)

قوله : " ذَلِكُم " أي : ذلكم الموصوف بتلك الصِّفَاتِ المتقدمة اللَّهُ تعالى فاسم الإشارة مبتدأ ، و " الله " تعالى خبره ، وكذا " ربكم " ، وكذا الجملة من قوله : " لا إله إلا هو " ، وكذا " خالق " .

قال الزمخشري{[14829]} : " وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة " .

قال شهاب الدين{[14830]} : وهذا عند من يُجِيزُ تَعَدُّدَ الخبر مُطْلَقاً ، ويجوز أن يكون " الله " وَحْدَهُ هو الخبر ، وما بعده أبْدَالٌ ، كذا قال أبو البقاء{[14831]} ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ بعضها مُشْتَقٌّ ، والبدل يَقِلُّ بالمُشْتَقَّاتِ ، وقد يقال : إنَّ هذه وإن كانت مُشْتَقَّةً ولكنها بالنِّسْبَةِ إلى الله -تعالى- من حيث اختصاصها به صارت كالجَوَامِدِ ، ويجوز أن يكون " الله " تعالى هو البدل ، وما بعده أخبار أيضاً .

ومن منع تعدُّدَ الخبر قدَّرَ قبل كُلِّ خبر مبتدأ أو يجعلها كلها بمنزلة اسم واحد ، كأنه قيل : ذلكم المَوْصُوفُ هو الجامع بين هذه الصفات .

فصل في إثبات وحدانية الله تعالى

اعلم أنه -تبارك وتعالى- لمَّا أقام الحُجَّة على وُجُودِ الإله القادرِ المختار الحكيم ، وبيَّن فساد كل من ذهب إلى الإشراك ، وفصَّل مذْهبهُمْ ، وبيَّن فسادَ كل واحد منها ، ثم حكى مَذْهَب مَنْ أثبت لله البَنينَ ، وبيَّن فسادَ القول بها بالدليل القاطع ، فعند هذا ثبَتَ أن إلهَ العالم فَرْدٌ أحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنظير ، ومُنَزَّهُ عن الأولادِ ، فعند هذا صرَّح بالنَّتيجة ، فقال : { ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } ولا تعبدوا غيره ، فهو المُطَّلِعُ بمُهِمَّاتِ جميع العِبَادِ ، وهو الذي يسمع دعاءهم وحَاجَتَهُمْ ، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مُهَمَّاتِه .

أعلم أنه -تبارك وتعالى- بيَّن في هذا السورة بالدلائل القاطعة الكثيرة افْتِقَارَ الخَلْقِ إلى خالقٍ ومُوجِدٍ ومُبْدِعٍ ومُدَبِّرٍٍ ، ولم يذكر دليلاً مُنْفَصِلاً يَدُلُّ على نَفْي الشركاء والأضْدادِ والأنْدَادِ ، بل نقل قَوْلَةَ من أثْبَتَ الشريك من الجن ، ثم أبْطَلَهُ ثم أتى بالتوحيد المَحْضِ بعده ، فقال : { ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } وإقامة الدليل على وُجُودِ الخالق وتزْيِيف دليل من أثبت لله -تعالى- شَرِيكاً كيف يوجب الجَزْمَ بالتوحيد المَحْضِ ، وللعلماء في إثبات التوحيد طُرُقٌ :

أحدها : قال المُتقدِّمُونَ : الصَّانِعُ الواحد كافٍ في كونه إلهاً للعالم ومُدَبِّراً له ، والقول بالزَّائِدِ على الواحد مُتَكَافِئ ، لأن الزَّائدَ على الواحد لم يَدُلَّ الدليل على ثُبُوتِهِ ، ولم يكن إثبات عددٍ أوْلَى من إثْباتِ عدد آخر ، فلزم إمَّا إثبات آله لا نهاية لها ، وهو مُحَالٌ ، أو إثبات عدد مُعَيَّنٍ ، مع أنه ليس ذلك العَدَوُ أوْلَى من سائر الأعْدَادِ ، وهو أيضاً محال ، وإذا بطل القسمان تعيَّنَ القول بالتوحيد .

الثاني : أن الإله القادرَ على كُلِّ الممكنات العالم بِكُلِّ المعلومات كافٍ في تَدْبيرِ العالم ، فلو قدرت إلهاً ثانياً لكان ذلك الثَّانِي إمَّا أن يكون فاعلاً مختاراً أو موجد الشيء من حوادث العالم أوْلَى بكون الأول باطلاً لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ ، فكل فعل يفعله أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقصوده ومَقْدُوره ، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو مُحَالٌ ، وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً ، ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً ، وذلك لا يصلح للإلهية .

الثالث : أن الإله الواحد لا بد وأن يكون [ كاملاً ]{[14832]} في صفة الإلهية ، فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما يكون مُشَاركاً لأوَّل في جميع صفات الكمال أو لا ، فإن كان مشاركاً للأوَّلِ في جميع صفات الكمال ، فلا بد وأن يكون متميزاً بأمرها ، إذ لو لم يحصل الامتياز [ بأمر من الأمور لم يحصل التعَدُّد والاثنينية ، وإذ حصل الامتياز بأمر ما ، فلذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون ، فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به ]{[14833]} لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز من صفاتِ الكمالِ ، فالموصوف به يكون مَوْصُوفاً بصفة ليست من صفات الكمال ، وذلك نُقْصَان ، فثبت بهذه الوُجُوهِ الثلاثة أن الإله الواحد كافٍ في تدبير العالم ، وأن الزائد يجب نَفْيُهُ .

تمسَّك العلماء - رضي الله عنهم - بقوله تبارك وتعالى { خَالِق كُلِّ شيءٍ } على أنه -تبارك وتعالى- هو الخالق لأعمال العبادِ قالوا : لأن أعمال العبادِ أشياء ، والله خَالِقٌ لكل شيء بحكم هذه الآية ، فوجب كونه خالقاً لها .

قالت المعتزلة{[14834]} : هذا اللَّفْظُ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تَدُلُّ على أن أعمال العبادِ خارجة عن هذا العموم .

أحدها : أنه -تبارك وتعالى- قال : { خَالِق كُلِّ شيءٍ فَاعْبُدُوهُ } ولو دخلت أعمال العبادِ تحته لصارَ تقدير الآية الكريمة : إنا خلقنا أعمالكم ، فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ، وذلك فَاسِدٌ .

وثانيها : أنه -تبارك وتعالى- إنما [ قال : ]{[14835]} { خَالِق كُلِّ شيءٍ } في معرض المَدْح والثناء على نفسه ، فلو دخل تحت أعْمَالِ العباد لخرج عن كَوْنِهِ مدحاً ؛ لأنه لا يليق به تعالى أن يَمْتَدِحَ بِخَلْقِ الزنا واللواط ، والسرقة والكفر .

وثالثها : أنه -تبارك وتعالى- قال بعد هذه الآية : { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } وهذا تصريح بكون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك ، وأنه لا مانع له ألْبَتَّةً من الفعل والترك ، وذلك يَدُلُّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [ إذ لو كان مخلوقاً لله -تعالى- لما ]{[14836]} كان العَبْدُ مستقلاً به ؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه ، وإذا لم يوجده الله -تعالى- امتنع من العَبْدِ تحصيله ، وإذا دلَّت الآية على كون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك ، وامتنع أن يقال : فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى : { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } يوجب تخصيص ذلك العموم .

والجواب : أن الدليل العَقْلِيَّ قد ساعد على صِحَّةِ ظاهر هذه الآية الكريمة ؛ لأن الفعل مَوْقُوفٌ على الداعي ، وخالق الداعي هو الله -تعالى- ومجموع القُدْرَةِ مع الداعي يوجب الفعل ، وذلك [ يقتضي ]{[14837]} كونه -تعالى- خَالِقَ كل شيء فاعبدوه ، ويَدُلُّ على أن كونه خَالِقاً لكل الأشْيَاءِ سبب للأمر [ بالعبادة ]{[14838]} لأنه رتب الأمر بالعبادة على كَوْنِهِ خالقاً للأشياء بفاء التعقيب ، وترتيب الحكم مُشْعِرٌ بالسّبَبِيَّةِ .

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن

احْتَجَّ كثيرٌ من{[14839]} المعتزلة بقوله تبارك وتعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } على نفي الصفات ، وعلى كون القرآن مَخْلُوقاً ، أما نَفْيُ الصِّفَات ، فإنهم قالوا : لو كان -تعالى- عالماً بالعلم قادراً بالقُدْرَةِ لكان ذلك العِلْمُ والقدرة إما أن يقال : إنهما قَدِيمانِ أو محدثان ، والأوَّلُ باطل ؛ لأن عموم قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } يقتضي كونه -تبارك وتعالى- خالقاً لِكُلِّ الأشياء وخَصَّصْنَا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضَرُورَة أنه يِمْتَنِعُ أن يكون خالقاً لنفسه ، فيبقى على عمومه فيما عَدَاهُ .

وإن قلنا بحدوث عِلْمِ الله تعالى وقدرته ، فهو بَاطِلٌ بالإجماع ، ولأنه يلزم افْتِقَارُ إيجاد ذلك العلم والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمٍ آخر ، وقدرة أخرى ، وذلك مُحالٌ . أمَّا تَمَسُّكُهُمْ بهذه الآية على كونِ القُرآنِ مَخْلُوقاً فقالوا : لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مَخْلُوقٌ لله -تبارك وتعالى- بِحُكْمِ هذا العموم وأقْصَى ما في الباب أن هذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذات الله -تبارك وتعالى- إلاَّ أن العام المَخْصُوصَ حُجَّةٌ في غير محلِّ التخصيص .

وجوابه : أن تخصيص هذا العموم بالدَّلائلِ الدَّالَّةِ على أن كلام الله -تبارك وتعالى- قَدِيمٌ .


[14829]:ينظر: الكشاف 2/53.
[14830]:ينظر: الدر المصون 3/148.
[14831]:ينظر: الإملاء 1/256.
[14832]:سقط في ب.
[14833]:سقط في أ.
[14834]:ينظر: الرازي 13/100.
[14835]:سقط في ب.
[14836]:سقط في أ.
[14837]:سقط في أ.
[14838]:في أ: بالعداوة.
[14839]:ينظر: الرازي 13/100.