قوله تعالى : { يعرفون نعمة الله } ، قال السدي : يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، { ثم ينكرونها } ، يكذبون به . وقال قوم : هي الإسلام . وقال مجاهد ، و قتادة : يعني : ما عد لهم من النعم في هذه السورة ، يقرون أنها من الله ، ثم إذا قيل لهم : تصدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ، ينكرونها فيقولون : ورثناها من آبائنا . وقال الكلبي : هو أنه لما ذكر لهم هذه النعم قالوا : نعم ، هذه كلها من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا . وقال عوف بن عبد الله : هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ، ولولا فلان لما كان كذا . { وأكثرهم الكافرون } ، الجاحدون .
وقوله - سبحانه - : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } ، استئناف مسوق لبيان الموقف الجحودي الذي وقفه المشركون من نعم الله - تعالى - .
والمراد بالكفر في قوله - تعالى - : { وأكثرهم الكافرون } ، الستر لنعم الله عن معرفة لها ، وغمطها عن تعمد وإصرار .
أي : إن هؤلاء المشركين ، يعرفون نعم الله التي عددها فى هذه السورة ، كما أنهم يعترفون بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله ، ولكنهم ينكرون هذه النعم بأفعالهم القبيحة ، وأقوالهم الباطلة ، كقولهم هذه النعم من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا الأصنام ، أو كقولهم : هذه النعم ورثناها عن آبائنا .
وجاء التعبير ب " ثم " لاستبعاد الإِنكار بعد المعرفة بالنعم ، فإن من شأن العالم بالنعمة أن يؤدي الشكر لمسديها ، وأن يستعملها فيما خلقت له .
وقوله : { وأكثرهم الكافرون } ، أي : وأكثر هؤلاء الضالين . جاحدون لنعم الله عن علم بها لا عن جهل ، وعن تذكر لا عن نسيان .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً . . } ، قال صاحب فتح البيان : وعبر هنا بالأكثر في قوله - تعالى - : { وأكثرهم الكافرون } ، والمراد : الكل ؛ لأنه قد يذكر الأكثر ويراد به الجميع ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم ، أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر أقلهم عن جهل ، وكفر أكثرهم بسبب تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم عنادا أو حسدا .
وأما قوله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنْكِرُونَها } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنّى بالنعمة التي أخبر الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين أنهم ينكرونها مع معرفتهم بها ، فقال بعضهم : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوّته ثم جحدوها وكذبوه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنْكِرُونَها } ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن السديّ ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدّد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله ، وأن الله هو المنعم بذلك عليهم ، ولكنهم يُنكرون ذلك ، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنْكِرُونَها } ، قال : هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها ، والسرابيل من الحديد والثياب ، تعرف هذا كفار قريش ، ثم تنكره بأن تقول : هذا كان لآبائنا ، فروّحونا إياه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : فورّثونا إياها . وزاد في الحديث عن ابن جريج ، قال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير : يعلمون أن الله خلقهم وأعطاهم ما أعطاهم ، فهو معرفتهم نعمته ثم إنكارهم إياها كفرهم بعد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا معاوية ، عن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن ليث ، عن عون بن عبد الله بن عتبة : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنْكِرُونَها } ، قال : إنكارهم إياها ، أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا ، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا .
وقال آخرون : معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم : من رزقكم ؟ أقرّوا بأن الله هو الذي رزقهم ، ثم يُنكرون ذلك بقولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : عُني بالنعمة التي ذكرها الله في قوله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ } ، النعمة عليهم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم داعيا إلى ما بعثه بدعائهم إليه . وذلك أن هذه الآية بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما بعث به ، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله وما بعده ، إذ لم يكن معنى يدلّ على انصرافه عما قبله وعما بعده فالذي قبل هذه الآية قوله : { فإنْ تَوَلّوْا فإنّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنْكِرُونَها } وما بعده : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلّ أُمّةٍ شَهِيدا } ، وهو رسولها . فإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الآية : يعرف هؤلاء المشركون بالله نعمة الله عليهم يا محمد بك ، ثم ينكرونك ويجحدون نبوّتك . { وأكْثَرُهُمُ الكافِرُونَ } يقول : وأكثر قومك الجاحدون نبوّتك ، لا المقرّون بها .
ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة ، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى ، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها ، هذا قول مجاهد ، فسماهم منكرين للنعمة تجوزاً ، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة ، وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما ، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع ، وقال السدي : «النعمة » هاهنا ، محمد صلى الله عليه وسلم ، ووصفهم تعالى بأنهم يعترفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه الطبري ، ثم حكم على أكثرهم بالكفر ، وهم أهل مكة ، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام ، ومن أسلم بعد ذلك .
استئناف بياني لأن تولّيهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتّباعه يثير سؤالاً في نفس السامع : كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام ، فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله ولكنهم أعرضوا عنها إنكاراً ومكابرة . ويجوز أن تجعلها حالاً من ضمير { تولوا } [ سورة النحل : 82 ] . ويجوز أن تكون بدل اشتمال لجملة { تولوا } .
وهذه الوجوه كلها تقتضي عدم عطفها على ما قبلها . والمعنى : هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها ، ومع تحقّقهم أنها نعمة من الله ينكرونها ، أي ينكرون شكرها فإن النّعمة تقتضي أن يشكُر المنعَمُ عليه بها من أنعم عليه ؛ فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها ، فقد أطلق فعل « ينكرون » بمعنى إنكار حقّ النّعمة ، فإسناد إنكار النّعمة إليهم مجاز لغوي ، أو هو مجاز عقلي ، أي ينكرون مُلابسها وهو الشكر .
و { ثمّ } للتراخي الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل ، فهو عطف على جملة { يعرفون نعمت الله } ، وكأنه قيل : وينكرونها ، لأن { ثمّ } لما كانت للعطف اقتضت التّشريك في الحكم ، ولما كانت للتراخي الرتبي زال عنها معنى المهلة الزمانية الموضوعة هي له فبقي لها معنى التّشريك وصارت المهلة مهلة رتبية لأن إنكار نعمة الله أمر غريب .
وإنكار النّعمة يستوي فيه جميع المشركين أيّمتهم ودهماؤهم ، ففريق من المشركين وهم أيّمة الكفر شأنهم التعقّل والتأمّل فإنهم عرفوا النّعمة بإقرارهم بالمنعِم وبما سمعوا من دلائل القرآن حتى تردّدوا وشكّوا في دين الشّرك ثم ركبوا رؤوسهم وصمّموا على الشّرك . ولهذا عبّر عن ذلك بالإنكار المقابل للإقرار .
وأما قوله تعالى : { وأكثرهم الكافرون } فظاهر كلمة « أكثر » وكلمة { الكافرون } أن الذين وصفوا بأنهم الكافرون هم غالب المشركين لا جميعهم ، فيحمل المراد بالغالب على دهماء المشركين . فإن معظمهم بسطاء العقول بعداء عن النّظر فهم لا يشعرون بنعمة الله ، فإن نعمة الله تقتضي إفراده بالعبادة . فكان إشراكهم راسخاً ، بخلاف عقلائهم وأهل النظر فإن لهم تردّداً في نفوسهم ولكن يحملهم على الكفر حبّ السيادة في قومهم . وقد تقدم قوله تعالى فيهم : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } في سورة العقود ( 103 ) . وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآية الأخرى { فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ سورة الأنعام : 33 ] .