قوله تعالى : { وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون*وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه } كما أنزل على الأنبياء من قبل ، قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : آية على التوحيد ، وقرأ الآخرون : آيات من ربه ، قوله عز وجل : { قل إنما الآيات عند الله } وهو القادر على إرسالها إذا شاء أرسلها ، { وإنما أنا نذير مبين } أنذر أهل المعصية بالنار ، وليس إنزال الآيات بيدي .
{ 50 - 52 } { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
أي : واعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به ، واقترحوا عليه نزول آيات عينوها ، كقولهم :
{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات . فتعيين الآيات ليس عندهم ، ولا عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فإن في ذلك تدبيرا مع اللّه ، وأنه لو كان كذلك ، وينبغي{[628]} أن يكون كذلك ، وليس لأحد من الأمر شيء .
ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } إن شاء أنزلها أو منعها { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } وليس لي مرتبة فوق هذه المرتبة .
وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل ، فإذا حصل المقصود -بأي : طريق- كان اقتراح الآيات المعينات على ذلك ظلما وجورا ، وتكبرا على اللّه وعلى الحق .
بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات ، ويكون في قلوبهم أنهم لا يؤمنون بالحق إلا بها ، كان ذلك ليس بإيمان ، وإنما ذلك شيء وافق أهواءهم ، فآمنوا ، لا لأنه حق ، بل لتلك الآيات . فأي فائدة حصلت في إنزالها على التقدير الفرضي ؟
ثم قصت علينا السورة الكريمة بعد ذلك طرفاً من أقوال المشركين الفاسدة وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يزهق باطلهم ، كما قصت علينا لونا من ألوان جهالاتهم ، حيث استعجلوا الذى لا يستعجله عاقل . فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ . . . مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
ومرادهم بالآيات فى قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } الآيات الكونية ، كعصا موسى ، وناقة صالح . ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا .
أى : وقال المبطلون للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت والعناد ، هلا جئتنا يا محمد بمعجزات حسية كالتى جاء بها بعض الأنبياء من قبلك ، لكى نؤمن بك ونتبعك ؟
وقوله : { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } إرشاد من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى ما يرد به عليهم .
أى : قل - أيها الرسول - الكريم - فى ردك على هؤلاء الجاهلين ، إنما الآيات التى تريدونها عند الله - تعالى - وحده ، ينزلها حسب إرادته وحكمته ، أما أنا فإن وظيفتى الإِنذار الواضح بسوء مصير من أعرض عن دعوتى ، وليس من وظيفتى أن أقترح على الله - تعالى شيئاً .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقالت المشركون من قريش : هلا أنزل على محمد آية من ربه تكون حجة لله علينا كما جعلت الناقة لصالح ، والمائدة آية لعيسى ، قل يا محمد ، إنما الاَيات عند الله لا يقدر على الإتيان بها غيره وَإنمَا أنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ وإنما أنا نذير لكم أنذركم بأس الله وعقابه على كفركم برسوله . وما جاءكم به من عند ربكم . مبين يقول : قد أبان لكم إنذاره .
الضمير في { قالوا } لقريش ولبعض اليهود ، لأنهم كانوا يعلمون قريشاً مثل هذه الحجة يقولون : لم لا يأتيكم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وعلى بن نضر عن أبي عمرو «آية من ربه » ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم «آيات من ربه » ، فأمر تعالى نبيه أن يعلم أن هذا الأمر بيد الله عز وجل ولا يستنزله الاقتراح ولا التمني وأنه بعث نذيراً ولم يؤمر بغير ذلك ، وفي مصحف أبي بن كعب «قالوا لو ما يأتينا بآيات من ربه قل إنما الآيات » .
لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم ، وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقاً للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى ، وهذا من جلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينتصب للمعاندة معهم فهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات . وقد قدمتُ بيان هذا الوهم عند قوله تعالى : { وقالوا لولا نزل عليه آيات من ربّه } في سورة [ الأنعام : 37 ] .
ومعنى { عند الله } أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه .
وأفادت { إنما } قصر النبي عليه الصلاة والسلام على صفة النذارة ، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربّه ، فهو قصر إفراد ردّاً على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة .
والمعنى : أنه لا يُسَلَّم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم . وخُصّ بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضاً بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر .
والمبين : الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب : { ءايات } . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف : { ءاية } . والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس ، فالآية الواحدة كافية في التصديق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال كفار مكة: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيات من ربه إلينا، كما كان تجيء إلى قومهم، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {قل} لهم {إنما الآيات عند الله} فإذا شاء أرسلها وليست بيدي، {وإنما أنا نذير مبين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال المشركون من قريش: هلا أنزل على محمد آية من ربه تكون حجة لله علينا كما جعلت الناقة لصالح، والمائدة آية لعيسى، قل يا محمد، إنما الآيات عند الله لا يقدر على الإتيان بها غيره.
"وَإنمَا أنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ" وإنما أنا نذير لكم أنذركم بأس الله وعقابه على كفركم برسوله. وما جاءكم به من عند ربكم. "مبين" يقول: قد أبان لكم إنذاره.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
واعلم أن الله تعالى قد أعطى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم المعجزات الكثيرة، ولكنه لم يعطه على ما اقترحوا، وقد كانوا يطلبون أن تكون الآيات على وفق اقتراحاتهم...
لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس، فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئا منها، ثم إن الله تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة...
قوله: {إنما الآيات عند الله} ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى الله... وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد فيما جاءهم [به] -وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه- فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فجحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم أصلاً ورأساً، ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات، عطف عليه قوله: {وقالوا} موهمين مكراً وإظهارا للنصفة بالاكتفاء بأدنى ما يدل على الصدق: {لولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
اعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به، واقترحوا عليه نزول آيات عينوها... وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل، فإذا حصل المقصود -بأي: طريق- كان اقتراح الآيات المعينات على ذلك ظلما وجورا، وتكبرا على اللّه وعلى الحق. بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات، ويكون في قلوبهم أنهم لا يؤمنون بالحق إلا بها، كان ذلك ليس بإيمان، وإنما ذلك شيء وافق أهواءهم، فآمنوا، لا لأنه حق، بل لتلك الآيات. فأي فائدة حصلت في إنزالها على التقدير الفرضي؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية. والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها. بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه؛ والذي تتفتح كنوزه لجميع الأجيال؛ والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها، وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب!
(قل: إنما الآيات عند الله).. يظهرها عند الحاجة إليها، وفق تقديره وتدبيره. وليس لي أن أقترح على الله شيئا. ليس هذا من شأني ولا من أدبي
(وإنما أنا نذير مبين). أنذر وأحذر وأكشف وأبين؛ فأؤدي ما كلفته. ولله الأمر بعد ذلك والتدبير. إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة. وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار. فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار. ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية، حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات. ونشأت عنها الانحرافات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم... ومعنى {عند الله} أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه. وأفادت {إنما} قصر النبي عليه الصلاة والسلام على صفة النذارة، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربّه، فهو قصر إفراد ردّاً على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة. والمعنى: أنه لا يُسَلَّم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم. وخُصّ بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضاً بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر. والمبين: الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به...