قال تعالى { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب ، وأنهم يودون أن يضلوكم . ومن المعلوم أن من ود شيئا سعى بجهده على تحصيل مراده ، فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه ، ولكن من لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فلهذا قال تعالى { وما يضلون إلا أنفسهم } فسعيهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب لهم ، قال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } { وما يشعرون } بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم لا يضرونكم شيئا .
ثم حكى - سبحانه - أن بعض أهل الكتاب لا يكتفون بما هم فيه من ضلال ، بل يحاولون أن يضلوا غيرهم فقال - تعالى - { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } .
وقوله - تعالى - { وَدَّت } من الود وهو محبة الشيء وتمني حصوله ووقوعه .
أى تمنت وأحبت جماعة من أهل الكتاب إضلالكم وإهلاككم عن الحق - أيها المؤمنون - وذلك بأن ترجعوا عن دين الإسلام الذى هداكم الله إليه ، إلى دين الكفر الذى يعتنقه أولئك الكافرون من أهل الكتاب .
ولم يقف بغى بعض أهل الكتاب وحسدهم عند هذا التمنى ، بل تجاوزوه إلى إلقاء الشبهات حول دين الإسلام ، وإلى محاولة صرف بعض المسلمين عن دينهم .
قال القرطبى : نزلت هذه الآية - فى معاذ بن جبل ، وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، حين دعاهم اليهود من بنى النضير وقريظة وبنى قينقاع إلى اليهودية .
والمراد بالطائفة رؤساء أهل الكتاب وأحبارهم ومن للتبعيض وهى مع مجرورها فى محل رفع نعت لطائفة .
و { لَوْ } فى قوله { لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } مصدرية أى ودت طائفة من أهل الكتاب إضلالكم . وقوله { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } جملة حالية .
أى : والحال أنهم ما يضلون أى ما يهلكون إلا أنفسهم بسبب غوايتهم واستيلاء الأهواء على قلوبهم ، وإبثارهم العمى على الهدى ولكنهم لا يشعرون بذلك ولا يفطنون له ، لأنهم قد زين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسنا .
{ وَدّت طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَدّتْ } : تمنت { طائِفَةٌ } يعني جماعة { مِنْ أهْلِ الكِتابِ } وهم أهل التوراة من اليهود ، وأهل الإنجيل من النصارى { لَوْ يُضِلّونَكُمْ } يقول : لو يصدّونكم أيها المؤمنون عن الإسلام ، ويردّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر ، فيهلكونكم بذلك . والإضلال في هذا الموضع : الإهلاك من قول الله عزّ وجلّ : { وَقَالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : إذا هلكنا . ومنه قول الأخطل في هجاء جرير :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجٍ أكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأتِيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالا
يعني : هلك هلاكا ، وقول نابغة بني ذبيان :
فآبَ مُضِلّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيّةٍ *** وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزْمٌ وَنائِلُ
{ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ } : وما يهلكون بما يفعلونه من محاولتهم صدّكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم ، يعني بأنفسهم : أتباعهم وأشياعهم على ملتهم وأديانهم ، وإنما أهلكوا أنفسهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه ، واستحقاقهم به غضبه ولعنته ، لكفرهم بالله ، ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم في كتابهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، والإقرار بنبوّته . ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون ، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة ، والردى على جهل منهم ، بما الله بهم محلّ من عقوبته ، ومدّخر لهم من أليم عذابه ، فقال تعالى ذكره : { وَما يَشْعُرُونَ } أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون¹ ومعنى قوله : { وَما يَشْعُرُونَ } : وما يدرون ولا يعلمون ، وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغنى ذلك عن إعادته .
أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين ، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله : { من أهل الكتاب } فتحتمل { من } أن تكون للتبعيض ، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم ، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وقال الطبري : { يضلونكم } معناه يهلكونكم ، واستشهد ببيت جرير{[3236]} .
كنْتَ القَذَى في موج أَخْضَرَ مُزْبدٍ . . . قذف الأتيُّ بِهِ فَضَلَّ ضلالا
وقول النابغة{[3237]} : [ الطويل ]
فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ . . . وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية وفي البيتين اقترن به هلاك ، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم{[3238]} ، قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون ، ثم أعلم أنهم لا يشعرون لذلك ، أي لا يتفطنون ، مأخوذ من الشعار المأخوذ من الشعر ، وقيل المعنى لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم .
استئناف مناسبتُه قوله : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } إلى قوله { إن أولى الناس بإبراهيم } [ آل عمران : 64 68 ] إلخ . والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، ولذلك عُبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلاّ يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة مَعهم في الآيات السابقة .
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة ، والنضير ، وقَينُقاع ، دَعَوا عمَّار بن ياسر ، ومعاذَ بن جبل ، وحذيفةَ بن اليمان ، إلى الرجوع إلى الشرك .
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت ، على طريقة الإجمال والتفصيل . فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازاً لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي . وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل وَدّت تقديره : لو يضلونكم لحصل مودودهم ، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لَوْ الامتناعية في بعض المقامات . وليس هو معنى أصلياً من معاني لو . وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : { يَودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة } في سورة [ البقرة : 96 ] .
وقوله : { لو يضلونكم } أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب : أي يذبذبوهم ، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس الأمر ، وإن كان وُدُّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم . وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أن يكون معناه : إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضاً ضالين ؛ لأنّ الإضلال ضلال ، وأن يكون معناه : إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله : { وما يشعرون } يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق .