6- إن في تعاقب الليل والنهار واختلافهما بالزيادة والنقصان ، وفي خلْق السماوات والأرض وما فيهما من الكائنات ، لأدلة واضحة وحُججاً بينة على ألوهية الخالق وقدرته لمن يتجنبون غضبه ويخافون عذابه{[90]} .
{ 5 - 6 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } .
لما قرر ربوبيته وإلهيته ، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله ، في أسمائه وصفاته ، من الشمس والقمر ، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات ، وأخبر أنها آيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } و { لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } .
فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها ، وكيفية استنباط الدليل{[390]} على أقرب وجه ، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ، الناشئين عن الأدلة والبراهين ، وعن العلم واليقين .
وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة ، دال على كمال قدرة الله تعالى ، وعلمه ، وحياته ، وقيوميته ، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن ، دال على كمال حكمة الله ، وحسن خلقه وسعة علمه . وما فيها من أنواع المنافع والمصالح -كجعل الشمس ضياء ، والقمر نورا ، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل- يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه ، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة .
وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود ، ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام ، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه ، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له ، لا لغيره من المخلوقات المربوبات ، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها .
وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله ، والنظر فيها بعين الاعتبار ، فإن بذلك تنفتح البصيرة ، ويزداد الإيمان والعقل ، وتقوى القريحة ، وفي إهمال ذلك ، تهاون بما أمر الله به ، وإغلاق لزيادة الإيمان ، وجمود للذهن والقريحة .
ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان قدرته ورحمته فقال : { إِنَّ في اختلاف الليل والنهار } طولا وقصرا ، وحرا وبردا ، وتعاقبا دقيقا لا يسبق أحدهما معه الآخر { وَمَا خَلَقَ الله في السماوات والأرض } من أنواع الإنس والجن والحيوان والنبات والنجوم وغير ذلك من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى . .
إن في كل ذلك الذي خلقه { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } أى : لدلائل عظيمة كثيرة دالة على قدرة الله ورحمته ووحدانيته ، لقوم يتقون الله - تعالى - فيحذرون عقابه ، ويرجون رحمته .
وخص - سبحانه - المتقين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بنتائج التدبر في هذه الدلائل .
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد سلك أنجع الوسائل في مخاطبة الفطرة البشرية ، حيث لفت الأنظار إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من مخلوقات شاهدة محسوسة ، تدل على وحدانية الله ، وقدرته النافذة ، ورحمته السابغة بعباده .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي اخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره منبها عباده على موضع الدلالة على ربوبيته وأنه خالق كلّ ما دونه . إن في اعتقاب الليل والنهار واعتقاب النهار الليل . إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب هذا ، وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ، لاَيَاتٍ يقول لأدلة وحججا وأعلاما واضحة لقوم يتقون الله ، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم .
فإن قال قائل : أو لا دلالة فيما خلق الله فِي السماوات والأرض على صانعه إلا لمن اتقى الله ؟ قيل : في ذلك الدلالة الواضحة على صانعه لكلّ من صحت فطرته ، وبريء من العاهات قلبه ، ولم يقصد بذلك الخبر عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعر نفسه تقوى الله ، وإنما معناه : إن في ذلك لاَيات لمن اتقى عقاب الله فلم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحقّ ، لأن ذلك يدلّ كلّ ذي فطرة صحيحة على أن له مدبرا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة دون ما سواه من الاَلهة والأنداد .
وقوله تعالى { إن في اختلاف الليل والنهار } الآية ، آية اعتبار وتنبيه ، ولفظه الاختلاف تعم تعاقب الليل والنهار وكونهما خلفه وما يتعاورانه من الزيادة والنقص وغير ذلك من لواحق سير الشمس وبحسب أقطار الأرض ، قوله { وما خلق الله في السماوات والأرض } لفظ عام لجميع المخلوقات ، و «الآيات » العلامات والدلائل ، وخصص «القوم المتقين » تشريفاً لهم إذ الاعتبار فيهم يقع ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتقى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره منبها عباده على موضع الدلالة على ربوبيته وأنه خالق كلّ ما دونه؛ إن في اعتقاب الليل والنهار واعتقاب النهار الليل؛ إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب هذا، وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء، "لآيَاتٍ "يقول لأدلة وحججا وأعلاما واضحة "لقوم يتقون" الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم.
فإن قال قائل: أو لا دلالة فيما خلق الله فِي السماوات والأرض على صانعه إلا لمن اتقى الله؟ قيل: في ذلك الدلالة الواضحة على صانعه لكلّ من صحت فطرتُه، وبرئ من العاهات قلبُه، ولم يقصد بذلك الخبر عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعر نفسه تقوى الله، وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتقى عقاب الله فلم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحقّ، لأن ذلك يدلّ كلّ ذي فطرة صحيحة على أن له مدبرا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن في اختلاف الليل والنهار آية البعث ودلالة تدبير صانعهما؛ أما دلالة البعث فهي أن كل واحد منهما إذا جاء ذهب الآخر وفني حتى لا يبقى له الأثر، ثم يتجددان ويحدثان على ذلك أمرهما، ويتلف كل واحد منهما صاحبه حتى لا يبقى له الأثر، فمن قدر على ما ذكرنا، قدر على بعثهم وإنشائهم بعد الموت بعدما صاروا ترابًا. وأما دلالة التدبير فهو جريانهما وسيرهما على سنن واحد وتقدير واحد من غير تغيير يقع فيهما أو تفاوت أو نقصان يقع فيهما أو زيادة وإن كان أحدهما يدخل في الآخر، دل على ما ذكرنا أنهما يجريان ويختلفان على شيء واحد وجريان واحد؛ أن فيهما تدبيرًا غير ذاتي وعلمًا أزليا وأنه واحد؛ إذ لو كان التدبير فيهما لعدد لكانا مختلفين ولا يجريان على قدر واحد من غير تفاوت فيهما أو نقصان أو زيادة، دل أنه واحد، وباللَّه التوفيق.
وفي ذلك دلالة وحدانية منشئهما وخالقهما؛ لأنه أنشأهما وبينهما من البعد ما بينهما من البعد، وجعل منافع أحدهما متصلة بمنافع الآخر على بعد ما بينهما، دل أن منشئهما واحد؛ إذ لو كان فعل عدد منع كل منهم فعله عن الوصول بالآخر على ما هو فعل ملوك الأرض.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ). مخالفة اللَّه ويتقون جميع الشرور والمساوي.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاختلاف: ذهاب كل واحد من الشيئين في غير جهة الآخر، فاختلاف الليل والنهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء والآخر في جهة الظلام. والليل عبارة عن وقت غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وهو جمع ليلة كتمرة وتمر. والنهار عبارة عن اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. والنهار واليوم معناهما واحد إلا أن في النهار فائدة اتساع الضياء.
...وإنما خص ما خلق في السموات والأرض بالذكر للإشعار بوجوه الدلالات إذ قد تكون الدلالة في الشيء من جهة الخلق، وقد تكون من جهة اختلاف الصورة ومن جهة حسن المنظر، ومن جهة كثرة النفع، ومن جهة عظم الأمر، كالجبل والبحر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامه في قوله -مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة: {إن في اختلاف الليل} أي على تباين أوصافه {والنهار} أي كذلك {وما} أي وفيما {خلق الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {في السماوات والأرض} من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيوانات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله: {لآيات} أي دلالات بينة جداً {لقوم يتقون} أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل تغير الأجرام الكبار كان جديراً بأن يخاف من أن تغير أحواله وتضطرب أموره فيتقي الله لعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين، فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ} في حدوثهما وتعاقبهما في طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس والنظام الدقيق لهما بحركتيها اليومية والسنوية، وطبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل ديني ودنيوي {ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ} من أنواع الجماد والنبات والحيوان {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}، أي أنواعا من الدلائل والبينات على سننه في النظام، وحكمه في الإبداع والإتقان، وفي تشريع العقائد والأحكام، لقوم يتقون عواقب مخالفة سننه في التكوين، وسننه في التشريع، فالأفراد الذين يخالفون سنن الصحة البدنية يمرضون، والشعوب التي تخالف سنن الاجتماع والعمران تخرب بلادها، وتضعف دولها، ويغير الله تعالى ما بها بتغييرها ما في أنفسها، كذلك الأفراد الذين يخالفون هدايته الشرعية في تزكية الأنفس فيدنسونها بالشرك والخرافات، ويفسدونها بالفواحش والمنكرات، يجزون على ذلك كله في الآخرة، ويجزى بعضهم على بعضها في الدنيا (كما بينا ذلك في مواضع أخرى).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن خلق السماوات والأرض، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب: (إن في اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السماوات والأرض.. لآيات لقوم يتقون) واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. ويشمل كذلك اختلافهما طولا وقصرا. وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس. إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب. وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الاستقبال والاستجابة.. (وما خلق الله في السماوات والأرض).. ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب (ما خلق الله في السماوات والأرض) ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس، والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال. لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش.. ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة، ثم يتركه ليتملاه.. إن في ذلك كله: (لآيات لقوم يتقون).. تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص. وجدان التقوى. الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع. هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة! ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء! ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني -بأسلوبه هذا- هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعا -وهذه ميزتها- فإن وجود هذا الكون ذاته أولا. ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة؛ وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر -حتى قبل أن يعرفها البشر- ثانيا.. إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة. والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلا معقولا. ولا يزيدون على أن يقولوا: إن الكون وجد هكذا بقوانينه؛ وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل؛ ووجوده يتضمن قوانينه! فإن كان هذا كلاما مفهوما -أو معقولا- فذاك! ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا؛ لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله! ثم أصبح يقال هنا وهناك، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله. ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله. ثم يماري في ربوبيته، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة. فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته. ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم؛ فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع.. فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء! ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى "إسلامية "يروج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم "العلم" و "العلمية "! فيقال: إن" الغيبية "لا مكان لها في الأنظمة" العلمية".. ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية..! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب. لا يخشون الله إنما يخشون الناس، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال! وما تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة. تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك. والفطرة البشرية بجملتها -قلبا وعقلا وحسا ووجدانا- تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها. وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها. يخاطبها من أقصر طريق، ومن أوسع طريق وأعمق طريق!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير. وهو استدلال بأحوال الضوء والظلمة وتعاقب الليل والنهار وفي ذلك عبرة عظيمة. وهو بما فيه من عطف قوله: {وما خلق الله في السماوات والأرض} أعم من الدليل الأول لشموله ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ومن خلق الليل والنهار ومن كل ما في الأرض والسماء مما تبلغ إليه معرفة الناس في مختلف العصور وعلى تفاوت مقادير الاستدلال من عقولهم. وتأكيد هذا الاستدلال بحرف {إنَّ} لأجل تنزيل المخاطبين به الذين لم يهتدوا بتلك الدلائل إلى التوحيد منزلة من ينكر أن في ذلك آيات على الوحدانية بعدم جريهم على موجب العلم.
وجعلت الآيات هنا لقوم يتقون وفي آية البقرة (164) {لقوم يعقلون} وفي آية آل عمران (190) لأولي الألباب لأن السياق هنا تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بالآيات ليعلموا أن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمَانهم من الانتفاع بالآيات، وأن نفعها حاصل للذين يتقون، أي يحذرون الضلال. فالمتقون هم المتصفون باتقاء ما يوقع في الخسران فيبعثهم على تطلب أسباب النجاح فيتوجه الفكر إلى النظر والاسْتدلال بالدلائل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
اختلاف الليل والنهار {إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ويشعرون بقيمة المعرفة من خلال دراسة الوسائل التي تصل بالناس إلى أسرار خلق الله عندما تكشف أمامهم دقّة النظام الكوني، فيعيشون في داخل أنفسهم الشعور بعظمة الله، فيتعبّدون له بإخلاص، ويتقونه بانضباط. وبذلك يريد الإسلام للتقوى أن ترتكز على أساس متينٍ ثابتٍ من العلم والوعي والإيمان، ولا يريدها مجرّد حالة انفعاليّةٍ سريعةٍ تزول مع أيّة مشكلة صغيرةٍ ذاتيةٍ. ولهذا كان التدقيق يحقّق للإنسان بعض الوعي للحكمة الإلهية التي تكمن من خلف الظاهرة، كما أن رصد القوانين الطبيعيّة والسنن الكونية الإِلهية التي تتحرك في هذه المخلوقات الجامدة والحيّة في السموات والأرض، يوحي بعظمة القوّة الخالقة وحكمة الإله الحكيم. وفي ضوء ذلك، نستوحي انطلاق المعرفة العلمية من التدبر والتأمّل في الموجودات والظواهر بعمق، لتكون هي الأساس للتقوى وللعبادة وللالتزام في الإسلام، خلافاً للمقولة التي تجعل من مسألة الإيمان مسألة غير عقلانية وغير علميّة