في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ} (6)

1

ومن خلق السماوات والأرض ، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار ، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب :

( إن في اختلاف الليل والنهار ، وما خلق الله في السماوات والأرض . . لآيات لقوم يتقون )

واختلاف الليل والنهار تعاقبهما . ويشمل كذلك اختلافهما طولا وقصرا . وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس . إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس ، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب ، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون ، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب . وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية ، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الاستقبال والاستجابة . .

( وما خلق الله في السماوات والأرض ) . .

ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب ( ما خلق الله في السماوات والأرض ) ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس ، والهيئات والأحوال ، والأوضاع والأشكال . لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها ، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش . . ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب ، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة ، ثم يتركه ليتملاه . . إن في ذلك كله :

( لآيات لقوم يتقون ) . .

تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص . وجدان التقوى . الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة ، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع .

هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية ، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون ؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة ، وإيحاءات مسموعة !

ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة ؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة ؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة ؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء !

ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني - بأسلوبه هذا - هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعا - وهذه ميزتها - فإن وجود هذا الكون ذاته أولا . ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة ؛ وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر - حتى قبل أن يعرفها البشر - ثانيا . . إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة .

والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلا معقولا . ولا يزيدون على أن يقولوا : إن الكون وجد هكذا بقوانينه ؛ وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل ؛ ووجوده يتضمن قوانينه ! فإن كان هذا كلاما مفهوما - أو معقولا - فذاك !

ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا ؛ لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله ! ثم أصبح يقال هنا وهناك ، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله . ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله . ثم يماري في ربوبيته ، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة . فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته . ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم ؛ فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع . . فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء !

ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى " إسلامية " يروج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم " العلم " و " العلمية " ! فيقال : إن " الغيبية " لا مكان لها في الأنظمة " العلمية " . . ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية . . ! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب . لا يخشون الله إنما يخشون الناس ، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال !

وما تزال دلالة وجود الكون ذاته ، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة . تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك . والفطرة البشرية بجملتها - قلبا وعقلا وحسا ووجدانا - تواجه هذه الدلالة ، وتستجيب لها . وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها . يخاطبها من أقصر طريق ، ومن أوسع طريق وأعمق طريق ! ! !