قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ، أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها . وقيل : أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق ، { وليجدوا فيكم غلظة } ، شدة وحمية . قال الحسن : صبرا على جهادهم ، { واعلموا أن الله مع المتقين } ، بالعون والنصرة .
{ 123 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وهذا أيضا إرشاد آخر ، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال ، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار ، والغلظة عليهم ، والشدة في القتال ، والشجاعة والثبات .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى ، فلازموا على تقوى اللّه ، يعنكم وينصركم على عدوكم .
وهذا العموم في قوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا ، وأنواع المصالح كثيرة جدا .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن الجهاد في سبيل الله ، بدعوة المؤنمين إلى قتال أعدائهم بشدة وغلظة بشدة وغلظة فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ . . . } .
وقوله : { يَلُونَكُمْ } من الولى بمعنى القرب ، تقول جلست مما يلى فلان أى : يقاربه .
قال ابن كثير : أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا ، الأقرب فالأقرب ، إلى حوزة الإِسلام ، ولهذا بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتل المشكرين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن . . وغير ذلك من أقاليم العرب ، دخل الناس من سائر احياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس بالدعوة إلى الإِسلام لأنهم أهل كتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس ، وجدب البلاد ، وضيق الحال ، ذلك سنة تسع من الهجرة ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ، ثم عاجلته المنية - صلوات الله وسلامه عليه - بعد حجة الوداع بأحد وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه .
وقوله { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أى : وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن ، غليظا على عدوه الكافر . قال - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } وفى الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنا الضحوك القتال " يعنى أنه ضحوك في وجه وليه المؤمن ، قتال لهامة عدوه الكافر .
وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } تذييل قصد به خص المؤمنين على التسلح بسلاح الإِيمان والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه .
أى : واعلموا أن الله - تعالى - مع المتقين بنصره ومعونته ، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم نصره - سبحانه - وعونه .
وإنما أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يبدأوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ديارهم ، لأن القتال شرع لتأمين الدعوة الإِسلامية ، وقد كانت دعوة الإِسلام موجهة إلى القرب فالأقرب ، فكان من الحكمة أن يبدأوا قتالهم مع المجاورين لهم حتى يأموا شرهم ، ولأنه من المعلوم أنه ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار ، وغزو جميع البلاد في زمان واحد ، فكان من قرب أولى ممن بعد .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم ، يقول لهم : ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد . وكان الذي يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم ، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق . فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد ، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام ، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم ، لأن المسلمين يد على من سواهم . ولصحة كون ذلك ، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة البارقي ، عن رجل من بني تميم ، قال : سألت ابن عمر عن قتال الديلم ، قال : عليك بالروم .
حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق وسفيان بن وكيع ، قالوا : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن يونس عن الحسن : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال : الديلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن : أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا عمران أخي ، قال : سألت جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين ، فقلت : ما ترى في قتال الديلم ؟ فقال : قاتلوهم ورابطوهم ، فإنهم من الذين قال الله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع ، عن الحسن أنه سئل عن الشام والديلم ، فقال : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ : الديلم .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، قال : سمعت أبا عمرو وسعيد بن عبد العزيز يقولان : يرابط كلّ قوم ما يليهم من مسالحهم وحصونهم . ويتأوّلان قول الله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال : كان الذين يلونهم من الكفار العرب ، فقاتلوهم حتى فرغ منهم . فلما فرغ قال الله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . حتى بلغ : وَهُمْ صَاغِرُونَ قال : فلما فرغ من قتال من يليه من العرب أمره بجهاد أهل الكتاب ، قال : وجهادهم أفضل الجهاد عند الله .
وأما قوله : وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فإن معناه : وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم فِيكُمْ أي منكم شدّة عليهم . وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتقِينَ يقول : وأيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم ، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه .