قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار } الآية .
نقل عن الحسن أنَّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة{[18251]} . وأنكر المحقِّقُون هذا النسخ وقالوا : إنَّهُ تعالى لمَّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطَّريق الأصلح وهو أن يَبْتَدِئوا من الأقرب ، فالأقرب ، منتقلاً إلى الأبعدِ . ألا ترى أنَّ أمر الدعوةِ وقع على هذا الترتيب قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام حارب قومه أولاً ، ثم انتقل إلى غزو سائر العربِ ، ثم انتقل إلى غزو الشَّام ، والصَّحابة لمَّا فرغوا من أمر الشَّام دخلوا العراق . والعلَّة في الابتداء بالأقرب وجوه :
أحدها : أنَّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر ، والكُلُّ متساوٍ في وجود القتال لما فيه من الكُفْرِ والمحاربة ، والجمع متعذِّر ، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة .
وثانيها : أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ .
وثالثها : أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد ، فقد عرضوا الذراري للفتنة ، وأموالهم إلى النهب .
ورابعها : أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء ، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد ، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع ، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل ؛ فكأن الابتداء بهم أولى .
وخامسها : أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد ، فيكون غزوه أسهل .
وسادسها : أنَّ دار الإسلام واسعة ، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤنة أسهل .
وسابعها : أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً .
وثامنها : ما تقدَّم من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في الدعوة بالأقرب ، وبالغزو بالأقرب ، وفي جميع المهمات كذلك . حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة ، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عليه الصلاة والسلام " كُلْ مِمَّا يَليكَ " {[18252]} فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ .
فإن قيل : ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح ؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب ؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً .
فالجوابُ : أنَّ ذلك احتمالٌ واحد ، وما ذكرنا احتمالات كثيرة ، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة ، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل ، فالأولى هو الجمع .
قوله : " وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ " هو من باب : " لا أرينَّك ههنا " ، وتقدم شرحه [ الأنفال : 25 ] . " غِلْظَةً " قرأ الجمهور بكسر الغين ، وهي لغة أسد . وقرأ الأعمشُ ، وأبانُ بن تغلب{[18253]} ، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها ، وهي لغة الحجاز . وقرأ أبُو حيوة ، والسُّلمي{[18254]} ، وابن أبي عبلة والمفضل ، وأبانُ في رواية عنهما " غُلْظة " بالضَّم ، وهي لغةُ تميم ، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث . والغِلْظَة : أصلها في الأجْرَام ، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون : شجاعة ، وقيل : عنفاً ، وقيل : شدة . والغلظة ضد الرِّقة ، وفائدتها أنها أقوى تأثيراً في الزَّجْرِ ، والمنع عن القبيح ، وهذا غيرُ مطَّرد ، بل يحتاجُ تارة إلى الرِّفْقِ واللُّطفِ ، وتارة إلى العنف ، ولهذا قال : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنَّه ينفرُ ويوجب تفرق القوم ، فقوله : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } يدلُّ على تقليل الغلظة ، كأنَّهُ قيل لا بد وأن يكونوا بحيثُ لو فتَّشُوا عن أخلاقكم ، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة ، وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ؛ فلا يخلو عن نوع غلظة . وهذه الغلظةُ إنَّما تعتبرُ فيما يتعلَّق بالدَّعوة إلى الدِّين ، إمَّا بإقامة الحُجَّةِ ، وإمَّا بالقتال فأمَّا فيما يتعلقُ بالبيع ، والشراء ، ونحوه فلا .
ثم قال { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : بالفوز والنصر ، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.