اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (123)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار } الآية .

نقل عن الحسن أنَّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة{[18251]} . وأنكر المحقِّقُون هذا النسخ وقالوا : إنَّهُ تعالى لمَّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطَّريق الأصلح وهو أن يَبْتَدِئوا من الأقرب ، فالأقرب ، منتقلاً إلى الأبعدِ . ألا ترى أنَّ أمر الدعوةِ وقع على هذا الترتيب قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام حارب قومه أولاً ، ثم انتقل إلى غزو سائر العربِ ، ثم انتقل إلى غزو الشَّام ، والصَّحابة لمَّا فرغوا من أمر الشَّام دخلوا العراق . والعلَّة في الابتداء بالأقرب وجوه :

أحدها : أنَّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر ، والكُلُّ متساوٍ في وجود القتال لما فيه من الكُفْرِ والمحاربة ، والجمع متعذِّر ، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة .

وثانيها : أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ .

وثالثها : أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد ، فقد عرضوا الذراري للفتنة ، وأموالهم إلى النهب .

ورابعها : أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء ، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد ، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع ، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل ؛ فكأن الابتداء بهم أولى .

وخامسها : أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد ، فيكون غزوه أسهل .

وسادسها : أنَّ دار الإسلام واسعة ، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤنة أسهل .

وسابعها : أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً .

وثامنها : ما تقدَّم من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في الدعوة بالأقرب ، وبالغزو بالأقرب ، وفي جميع المهمات كذلك . حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة ، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عليه الصلاة والسلام " كُلْ مِمَّا يَليكَ " {[18252]} فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ .

فإن قيل : ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح ؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب ؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً .

فالجوابُ : أنَّ ذلك احتمالٌ واحد ، وما ذكرنا احتمالات كثيرة ، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة ، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل ، فالأولى هو الجمع .

قوله : " وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ " هو من باب : " لا أرينَّك ههنا " ، وتقدم شرحه [ الأنفال : 25 ] . " غِلْظَةً " قرأ الجمهور بكسر الغين ، وهي لغة أسد . وقرأ الأعمشُ ، وأبانُ بن تغلب{[18253]} ، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها ، وهي لغة الحجاز . وقرأ أبُو حيوة ، والسُّلمي{[18254]} ، وابن أبي عبلة والمفضل ، وأبانُ في رواية عنهما " غُلْظة " بالضَّم ، وهي لغةُ تميم ، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث . والغِلْظَة : أصلها في الأجْرَام ، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون : شجاعة ، وقيل : عنفاً ، وقيل : شدة . والغلظة ضد الرِّقة ، وفائدتها أنها أقوى تأثيراً في الزَّجْرِ ، والمنع عن القبيح ، وهذا غيرُ مطَّرد ، بل يحتاجُ تارة إلى الرِّفْقِ واللُّطفِ ، وتارة إلى العنف ، ولهذا قال : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنَّه ينفرُ ويوجب تفرق القوم ، فقوله : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } يدلُّ على تقليل الغلظة ، كأنَّهُ قيل لا بد وأن يكونوا بحيثُ لو فتَّشُوا عن أخلاقكم ، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة ، وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ؛ فلا يخلو عن نوع غلظة . وهذه الغلظةُ إنَّما تعتبرُ فيما يتعلَّق بالدَّعوة إلى الدِّين ، إمَّا بإقامة الحُجَّةِ ، وإمَّا بالقتال فأمَّا فيما يتعلقُ بالبيع ، والشراء ، ونحوه فلا .

ثم قال { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : بالفوز والنصر ، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه .


[18251]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/181).
[18252]:أخرجه البخاري 9/521، كتاب الأطعمة: باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5376) ومسلم 3/1599، كتاب الأشربة: باب آداب الطعام والشراب (108-2022).
[18253]:ينظر: السبعة ص (320)، الحجة 4/241، إعراب القراءات 1/257-1/258، إتحاف فضلاء البشر 2/100.
[18254]:ينظر: الكشاف 2/324، المحرر الوجيز 3/97، البحر المحيط 5/118، الدر المصون 3/513.