فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (123)

{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } وفي هذا الفعل لغتان أكثرهما وليه يليه بالكسر فيهما والثانية من باب وعد وهي قليلة الاستعمال ، وجلست مما يليه أن يقاربه ، وكأن الآية جاءت على اللغة الثانية وأصله يليون أي الأقرب فالأقرب منهم .

أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار في الدار والبلاد والنسب ، قيل مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها ، قاله ابن عباس .

وقال ابن عمر : هم الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق ، وقيل هم الديلم ، وقال ابن زيد : هم العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم ، ثم أمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة كما قال .

{ وليجدوا } أي ليدركوا { فيكم غلظة } أي شدة وقوة وشجاعة ، قال الخفاجي : قالوا إنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة والأنف في القتل والأسر ، وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة ، والمقصود أمر المؤمنين بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه حتى يجدهم الكفار المتصفين بها فهي على حد قولهم لا أرينك ههنا ، والغلظة بالكسر ضد الرقة وهي لغة أسد ، والفتح لغة أهل الحجاز والضم لغة تميم .

حكى أبو عمرو اللغات الثلاث وبها قرئ لكن السبعة على الكسر ، والغلظة أصلها في الأجرام فاستعيرت هنا للشدة والتجلد والصبر ، وقال الحسن : صبرا على جهادهم والجهاد واجب لكل الكفار وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم ثم الأقرب فالأقرب .

ونقل عن بعض العلماء أنه قال أنزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت { وقاتلوا المشركين كافة } صارت ناسخة لهذه الآية .

وقال المحققون من العلماء : ولا وجه للنسخ فإنه تعالى أمرهم بقتالهم كافة وأرشدهم الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب قربا مكانيا لا قربا نسبيا حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد ، وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور ، ولهذا السبب قد قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولا قومه ، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب ، وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك ، ثم انتقل إلى غزو الروم والشام فكان فتحه في زمن الصحابة ثم أنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب أولا تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد .

ثم أخبرهم الله بما يقوي عزائمهم ويثبت أقدامهم فقال : { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصرة لهم وتأييدهم على عدوهم ومن كان الله معه لم يقم له شيء .