قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ، أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها . وقيل : أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق ، { وليجدوا فيكم غلظة } ، شدة وحمية . قال الحسن : صبرا على جهادهم ، { واعلموا أن الله مع المتقين } ، بالعون والنصرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم ، يقول لهم : ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد . وكان الذي يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم ، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق . فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد ، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام ، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم ، لأن المسلمين يد على من سواهم . ولصحة كون ذلك ، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة البارقي ، عن رجل من بني تميم ، قال : سألت ابن عمر عن قتال الديلم ، قال : عليك بالروم .
حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق وسفيان بن وكيع ، قالوا : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن يونس عن الحسن : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال : الديلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن : أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا عمران أخي ، قال : سألت جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين ، فقلت : ما ترى في قتال الديلم ؟ فقال : قاتلوهم ورابطوهم ، فإنهم من الذين قال الله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع ، عن الحسن أنه سئل عن الشام والديلم ، فقال : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ : الديلم .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، قال : سمعت أبا عمرو وسعيد بن عبد العزيز يقولان : يرابط كلّ قوم ما يليهم من مسالحهم وحصونهم . ويتأوّلان قول الله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال : كان الذين يلونهم من الكفار العرب ، فقاتلوهم حتى فرغ منهم . فلما فرغ قال الله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . حتى بلغ : وَهُمْ صَاغِرُونَ قال : فلما فرغ من قتال من يليه من العرب أمره بجهاد أهل الكتاب ، قال : وجهادهم أفضل الجهاد عند الله .
وأما قوله : وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فإن معناه : وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم فِيكُمْ أي منكم شدّة عليهم . وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتقِينَ يقول : وأيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم ، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل ، وقالت فرقة : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة ، وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه{[5975]} من الكفرة ، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام ، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد ، وقال قائلو هذه المقالة : نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم{[5976]} وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم ، وقال الحسن : هم الروم والديلم .
قال القاضي أبو محمد : يعني في زمنه ذلك ، وقاله علي بن الحسين ، وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }{[5977]} ، وقرأ جمهور الناس «غِلظة » بكسر الغين ، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش «غَلظة » بفتحها ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة «غُلظة » بضمها ، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضاً ، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو ، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات ، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأساً ، وذلك مقصود به القتال ، ومنه { عذاب غليظ }{[5978]} و { غليظ القلب }{[5979]} و { غلاظ شداد }{[5980]} في صفة الزبانية ، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق{[5981]} إلى غير ذلك ، ثم وعد تعالى في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو ، وقد قال بعض الصحابة : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب .
كان جميع بلاد العرب خلَص للإسلام قبل حجة الوداع ، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقرّ نصارى العرب ، وكانوا تحت حكم الروم ، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وُضعت الجزية على أيْلَةَ وبُصرى ، وكانت تلك الغزوة إرهاباً للنصارى ، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلَّما استقر بلد للإسلام وكان تُجاوره بلاد كفر كان حقاً على المسلمين غزو البلاد المجاورة . ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس .
فالجملةُ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك .
وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب . ولعل في قوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى { وسيجْزي الله الشاكرين } [ آل عمران : 144 ] .
والغلظة بكسر الغين : الشدة الحسية والخشونة ، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة ، كقوله : { واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] . قال في « الكشاف » : وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر . اه .
قلت : والمقصد من ذلك إلقاءُ الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين .
ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم . وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة . وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلظة بحيث تظهر وتَنال العدو فيحِس بها ، كقوله تعالى لموسى : { فلا يَصدَّنَّك عنها من لا يؤمن بها } [ طه : 16 ] . وإنما وقعت هذه المبالغة لِما عليه العدو من القوة ، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم ، وهم أصحاب عَدد وعُدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة .
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين ، إذ قد ظُهر على كفرهم وهم أشد قرباً من المؤمنين في المدينة . وفي هذا السياق جاء قوله تعالى : { يأيها النبيءُ جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم } [ التوبة : 73 ] .
وجملة : { واعلموا أن الله مع المتقين } تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد .
وافتتحت الجملة ب { اعلموا } للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } في سورة الأنفال ( 41 ) . والمعية هنا معية النصر والتأييد ، كقوله تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } [ التوبة : 40 ] . وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم .