قوله تعالى :{ وكم أهلكنا من قرية } أي من أهل قرية ، { بطرت معيشتها } أي : في معيشتها ، أي : أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافرون ومارو الطريق ، يوماً أو ساعة ، معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً قليلاً . وقيل : معناه : لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، { وكنا نحن الوارثين } كقوله : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وكم أهلكنا من قرية أبطرتها معيشتها ، فبَطِرت ، وأَشِرت ، وطَغَت ، فكفرت ربها . وقيل : بطرت معيشتها ، فجعل الفعل للقرية ، وهو في الأصل للمعيشة ، كما يقال : أَسْفَهَك رأيك فسَفِهته ، وأبطرك مالك فبطِرته ، والمعيشة منصوبة على التفسير .
وقد بيّنا نظائر ذلك في غير موضع من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وكَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها قال : البطر : أَشَرّ أهل الغفلة وأهل الباطل والركوب لمعاصي الله ، وقال : ذلك البطر في النعمة فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلاّ قَلِيلاً يقول : فتلك دور القوم الذين أهلكناهم بكفرهم بربهم ومنازلهم ، لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلاً ، يقول : خربت من بعدهم ، فلم يعمر منها إلاّ أقلها ، وأكثرها خراب . ولفظ الكلام وإن كان خارجا على أن مساكنهم قد سُكِنت قليلاً ، فإن معناه : فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلاً منها ، كما يقال : قضيت حقك إلاّ قليلاً منه .
وقوله : وكُنّا نَحْنُ الوَارِثِينَ يقول : ولم يكن لما خرّبنا من مساكنهم منهم وارث ، وعادت كما كانت قبل سُكناهم فيها ، لا مالك لها إلاّ الله ، الذي له مِيراث السموات والأرض .
{ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم . { فتلك مساكنهم } خاوية . { لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم ، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم . { وكنا نحن الوارثين } منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم ، وانتصاب { معيشتها } بنزع الخافض أو بجعلها ظرفا بنفسها كقولك : زيد ظني مقيم ، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولا على تضمين بطرت معنى كفرت .
عطف على جملة { أوَ لم نمكّن لهم حرماً آمناً } [ القصص : 57 ] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ ، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمِطوا النعمة وقابلوها بالبطر .
والبطَر : التكبر . وفعله قاصر من باب فَرِح ، فانتصاب { معيشتها } بعد { بطرت } على تضمين { بطرت } معنى ( كفرت ) لأن البَطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما يُسدى إليه من الخير .
والمراد : بطِرت حالة معيشتها ، أي نعمة عيشها .
والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام ، ويعلم أنها حالة حسنة من قوله : { بطرت } وهي حالة الأمن والرزق .
والإشارة ب ( تلك ) إلى { مساكنهم } الذي بيّن به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن . وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزَّل منزلة الحاضر بمرأى السامع ، ولذلك فقوله : { لم تُسكن من بعدهم } خبر عن اسم الإشارة والتقدير : فمساكنهم لم تُسكَن من بعدهم إلا قليلاً .
والسكنى : الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمناً طويلاً .
ومعنى { لم تُسكْن من بعدهم } لم يتركوا فيها خلفاً لهم . وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم .
وقوله { إلا قليلاً } احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها .
وانتصب { قليلاً } على الاستثناء من عموم أزمان محذوفةٍ . والتقدير : إلا زماناً قليلاً ، أو على الاستثناء من مصدر محذوف . والتقدير : لم تسكن سكناً إلاّ سكناً قليلاً ، والسَّكْن القليل : هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى . فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء ، أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجعين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة . والمعنى : فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر ، أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا .
وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مرّ في طريقه إلى تبوك بحجْر ثمود فقال : « لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين » أي خائفين أي اقتصاراً على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقاً لقدره .
وجملة { وكنا نحن الوارثين } عطف على جملة { لم تُسكن من بعدهم } وهو يفيد أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحلُّ فيها قوم آخرون بعدهم فعُبِّر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة .
وقصْر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي ، أي لا يرثها غيرنا . وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن . وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكن لأن بهجة المساكن سكانها ، فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.