يعني تعالى ذكره بقوله : وكَذلكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا وكما كنا نوحي في سائر رسلنا ، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن ، روحا من أمرنا : يقول : وحيا ورحمة من أمرنا .
واختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى به الرحمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : رُوحا مِنْ أمْرِنا قال : رحمة من أمرنا .
وقال آخرون : معناه : وحيا من أمرنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وكَذلكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا قال : وحيا من أمرنا .
وقد بيّنا معنى الروح فيما مضى بذكر اختلاف أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : مَا كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ وَلا الإيمَانُ يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ماكنت تدري يا محمد أيّ شيء الكتاب ولا الإيمان اللذين أعطيناكهما وَلَكِنْ جَعَلْناهُ نُورا يقول : ولكن جعلنا هذا القرآن ، وهو الكتاب نورا ، يعني ضياءً للناس ، يستضيئون بضوئه الذي بيّن الله فيه ، وهو بيانه الذي بيّن فيه ، مما لهم فيه في العمل به الرشاد ، ومن النار النجاة نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يقول : نهدي بهذا القرآن ، فالهاء في قوله «به » من ذكر الكتاب .
ويعني بقوله : نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ : نسدّد إلى سبيل الصواب ، وذلك الإيمان بالله مَنْ نَشاءُ منْ عِبادِنا يقول : نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ وَلا الإيمانُ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ جَعَلْناهُ نُورا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يعني بالقرآن . وقال جلّ ثناؤه وَلَكِنْ جَعَلْناهُ فوحد الهاء ، وقد ذكر قبل الكتاب والإيمان ، لأنه قصد به الخبر عن الكتاب . وقال بعضهم : عنى به الإيمان والكتاب ، ولكن وحد الهاء ، لأن أسماء الأفعال يجمع جميعها الفعل ، كما يقال : إقبالك وإدبارك يعجبني ، فيوحدهما وهما اثنان .
وقوله : وَإنّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا ، بالدعاء إلى الله ، والبيان لهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنّكَ لَتَهْدي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قال تبارك وتعالى وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ داعٍ يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَإنّكَ لَتَهْدي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال : لكل قوم هاد .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَإنّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : تدعو إلى دين مستقيم ، صِراطِ اللّهِ الّذِي لَهُ ما فِي السّمّواتِ وما في الأرْضِ يقول جلّ ثناؤه : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وهو الإسلام ، طريق الله الذي دعا إليه عباده ، الذي لهم مُلك جميع ما في السموات وما في الأرض ، لا شريك له في ذلك . والصراط الثاني : ترجمة عن الصراط الأوّل .
وقوله جلّ ثناؤه : ألا إلى اللّهِ تَصِيرُ الامُورُ يقول جلّ ثناؤه : ألا إلى الله أيها الناس تصير أموركم في الاَخرة ، فيقضي بينكم بالعدل .
فإن قال قائل : أو ليست أمورهم في الدنيا إليه ؟ قيل : هي وإن كان إليه تدبير جميع ذلك ، فإن لهم حكاما ووُلاة ينظرون بينهم ، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان غيره ، فلذلك قيل : إليه تصير الأمور هنالك وإن كانت الأمور كلها إليه وبيده قضاؤها وتدبيرها في كل حال .
وقوله : { صراط الله } يعني صراط شرع الله ورحمته وجنته ، فبهذا الوجه ونحوه من التقدير أضيف الصراط إلى الله تعالى . واستفتح القول في الإخبار بصيرورة الأمور إلى الله تعالى مبالغة وتحقيقاً وتثبيتاً ، والأمور صائرة على الدوام إلى الله تعالى ، ولكن جاءت هذه العبارة مستقبلة تقريباً لمن في ذهنه أن شيئاً من الأمور إلى البشر . وقال سهيل من أبي الجعد : احترق مصحف فلم يبق منه إلا قوله : { ألا إلى الله تصير الأمور } .
{ صراط الله الذي له في السماوات وما في الأرض }
وتنكير { صراط } للتعظيم مثل تنكير ( عظمٍ ) في قول أبي خراش :
فلا وأبي الطير المُرِبَّة في الضحى *** على خالد لقد وقعن على عَظْم
ولأن التنكير أنسب بمقام التعريض بالذين لم يأبهوا بهدايته .
وعُدل عن إضافة { صراط } إلى اسم الجلالة ابتداء لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل بأن يُبْدل منه بعد ذلك { صراط الله } ليتمكن بهذا الأسلوب المعنى المقصود فَضْلَ تمكُّن على نحو قوله : { اهدنا الصراط المستقيم صراطَ الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 6 ، 7 ] .
وإجراء وصف اسم الجلالة باسم الموصول وصلته للإيماء إلى أن سبب استقامة الصراط الذي يهدي إليه النبي بأنه صراط الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض فلا يعْزب عنه شيء مما يليق بعباده ، فلما أرسَل إليهم رسولاً بكتاب لا يُرتاب في أن ما أرسل لهم فيه صلاحُهم .
{ أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } .
تذييل وتنهية للسورة بختام ما احتوت عليه من المجادلة والاحتجاج بكلام قاطع جامع منذر بوعيد للمعرضين فاجع ومبشر بالوعد لكل خاشع . وافتتحت الجملة بحرف التنبيه لاسترعاء أسماع النّاس . وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص ، أي إلى الله لا إلى غيره .
و { المصير } : الرّجوع والانتهاء ، واستعير هنا لظهور الحقائق كما هي يومَ القيامة فيَذهَب تلبيس الملبسين ، ويَهِن جبروت المتجبرين ، ويقرّ بالحق من كان فيه من المعاندين ، وهذا كقوله تعالى : { وإلى الله عاقبة الأمور } [ لقمان : 22 ] وقوله : { وإليه يرجع الأمر كله } [ هود : 123 ] . والأمور : الشؤون والأحوال والحقائق وكل موجود من الذوات والمعاني .
وقد أخذَ هذا المعنى الكميت في قوله :