الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلۡأُمُورُ} (53)

وقوله : { صراط الله } يعني : صراط شرع اللَّه ، ثم استفتح سبحانه القَوْلَ في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه ؛ مبالغةً وتحقيقاً وتثبيتاً ، فقال : { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } . قال الشيخُ العارفُ باللَّه أبو الحسن الشاذليُّ رحمه اللَّه : إنْ أردتَ أَنْ تغلب الشَّرَّ كُلَّه ، وتلحق الخيرَ كُلَّه ، ولا يَسْبِقَكَ سَابِق ، وإنْ عمل ما عمل فقل : يا مَنْ له الخَيْرُ كُلُّهُ ، أسألك الخيرَ كُلَّه ، وأعوذ بك من الشَّرِّ كُلِّه ، فإنَّك أنت اللَّه الغَنِيُّ الغفُورُ الرَّحِيم ، أَسْأَلُكَ بالهادِي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صراطٍ مستقيمٍ ، صراطِ اللَّهِ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، أَلاَ إلى اللَّه تصيرُ الأمور ، اللَّهُمَّ ، إنِّي أَسْأَلُكَ مَغْفِرَةً تَشْرَحُ بها صَدْرِي ، وتَضَعُ بها وِزْرِي ، وترفعُ بها ذِكْرِي ، وتُيَسِّرَ بها أمري ، وتُنَزِّهَ بها فكري ، وتُقَدِّسَ بها سِرِّي ، وتكشفَ بها ضُرِّي ، وترفَعَ بها قَدْرِي ؛ إنَّك على كُلِّ شَيْءٍ قدير ، اه .

( ت ) : قوله تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } : هذا بَيِّنٌ ، وقوله : { وَلاَ الإيمان } : فيه تأويلات : قيل معناه : ولا شرائع الإيمان ومعالمَه ؛ قال أبو العالية : يعني : الدعوةَ إلى الإيمان ، وقال الحسين بن الفَضْل : يعني أهل الإيمان ، مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن ، وقال ابن خُزَيْمَةَ : الإيمان هنا الصلاة ؛ دليله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] قال ابن أبي الجَعْدِ وغيره : احترق مُصْحَفٌ فلم يبقَ منه إلاَّ : { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } وغَرِقَ مصحفٌ فامتحى كُلُّه إلاَّ قولَه : { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } نقله الثعلبيُّ وغيره ، انتهى .

ختام السورة:

قال العبد الفقير إلى اللَّه تعالى ، عبدُ الرحمن بْنُ محمَّدِ بنِ مَخْلُوفٍ الثَّعَالِبيُّ ، لَطَفَ اللَّه به في الدَّارَيْنِ : قد يَسَّر اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في تحرير هذا المختَصَر ، وقد أودعتُهُ بحمد اللَّه جزيلاً من الدُّرُر ، قد استوعبتُ فيه بحمد اللَّه مُهِمَّاتِ ابْنِ عطيَّةَ ، وزدته فوائدَ جليلةً من غيره ، وليس الخَبَرُ كالْعِيَانِ ، تَوَخَّيْتُ فيه بحمد اللَّه الصَّوَاب ؛ وجعلته ذخيرةً عند اللَّه لِيَوْمِ المآبِ ، لا يَسْتَغْنِي عنه المُنْتَهِي ؛ وفيه كفايةٌ للْمُبَتِدئ ، يستغني به عن المُطَوَّلاَت ؛ إذْ قد حَصَّل منها لُبَابَهَا ؛ وكَشَفَ عن الحقائقِ حِجَابَهَا .

التَّعْرِيفُ بِرِحْلَةِ المُؤَلِّف

رحلْتُ في طَلَبِ العِلْمِ في أواخر القَرْنِ الثَّامِنِ ، ودخلْتُ بِجَايَةَ في أوائل القرن التاسع ، فلقيتُ بها الأَئمةَ المقتدى بهم ، أَصحابَ سيِّدِي عبد الرحمنِ الوغليسيِّ متوافرِين ، فحضَرْتُ مجالسَهُمْ .

وكانَتْ عُمْدَةُ قراءتي بها على سيدي علي بن عثمان المَانْجِلاَتِيِّ رحمه اللَّه بمَسْجِدِ عَيْنِ البَرْبَرِ ، ثم ارتحلْتُ إلى تُونُسَ ، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأُبِّيَّ ، والبرزليَّ ، وغيرهم ، وأخذْتُ عنهم .

ثم ارتحلْتُ إلى المشرق ، فلقيتُ بِمِصْرَ الشيْخَ وَلِيَّ الدِّينِ العِرَاقِي ، فأخذْتُ عنه علوماً جَمَّةً مُعْظَمُهَا عِلْمُ الحديث ، وفتح اللَّه لي فيه فتحاً عظيماً ، وكتب لي وأَجَازَنِي جميعَ ما حضَرْتُهُ عليه ، وأطلق في غيره . ثم لقيتُ بمَكَّةَ بعض المحدِّثين ، ثم رجعتُ إلى الديار المصرية وإلى تُونُسَ ، وشاركْتُ مَنْ بها ، ولقيت بها شيخَنَا أبا عبد اللَّه محمَّدَ بْنَ مَرْزُوقٍ قادماً لإرادة الحَجِّ ، فأخذتُ عنه كثيراً ، وأجازني التدريسَ في أنواع الفُنُونِ الإسلاميَّةِ ، وحَرَّضَنِي على إتمام تقييدٍ وضعتُه على ابن الحاجِبِ الفرعيِّ .

( ت ) : ولما فرغْتُ من تحرير هذا المختَصَرِ وافَقَ قدومَ شيخِنَا أبي عبد اللَّهِ محمد بن مرزوقٍ علينا في سَفْرَةٍ سافرها من تِلْمِسَانَ متوجِّهاً إلى تُونُسَ ، ليصلح بَيْنَ سلطانها وبين صَاحِبِ تِلْمِسَانَ ، فأوقفته على هذا الكتاب ، فنظر فيه وأمعن النظر ، فَسُرَّ به سروراً كثيراً ودعا لنا بخير ، واللَّه الموفِّق بفَضْلِه .