{ وإذا الموءودة سئلت } وهي الجارية المدفونة حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها ، أي يثقلها حتى تموت ، وكانت العرب تدفن البنات حية مخافة العار والحاجة ، يقال : وأد يئد وأداً ، فهو وائد ، والمفعول موءودة . روى عكرمة عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخصت على رأس الحفرة ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاماً حبسته .
ثم قال - تعالى - : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ . بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } ولفظ " الموءودة " من الوأد ، وهو دفن الطفلة الحية .
قال صاحب الكشاف وأد يئد مقلوب من آد يؤود : إذا أثقل . قال - تعالى - { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } لأنه إثقال بالتراب .
فإن قلت : ما حملهم على وأد البنات ؟ قلت : الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن ، أو الخوف من الإِملاق .
فإن قلت : فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذى قتلت به ؟ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها ؟ قلت : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها ، نحو التبكيت - لقوم عيسى - فى قوله - تعالى - لعيسى :
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } أى : وإذا الموءودة سئلت ، على سبيل التبكيت والتقريع لمن قتلها ، بأى سبب من الأسباب قتلك قاتلك .
ولا شك أنها لم ترتكب ما يوجب قتلها ، وإنما القصد من ذلك إلزام قائلها الحجة ، حتى يزداد افتضاحا على افتضاحه .
وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات ، ما كان يفعله أهل الجاهلية من قتلهم للبنات ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع قبائل العرب ، فقريش - مثلا - لم يعرف عنها ذلك وإنما عرف فى قبائل ربيعة ، وكنده ، وتميم . ولكنهم لما كانوا جميعا راضين عن هذا الفعل ، جاء الحكم عاما فى شأن أهل الجاهلية .
و { الموءودة } : اسم معناه المثقل عليها ، ومنه : { ولا يؤوده }{[11660]} [ البقرة : 255 ] ومنه أتأد ، أي توقد ، وأثقل وعرف هذا الاسم في النبات اللواتي كان قوم من العرب يدفنونهن أحياء يحفر الرجل شبه البر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها ، وإذا كانت صغيرة جداً خدّ{[11661]} لها في الأرض ودفنها ، وبعضهم : كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال ، وبعضهم : غيرة وكراهية للبنات وجهالة وقرأ الجمهور : «الموءودة » بالهمز من وأد في حرف ابن مسعود : «وإذا الماودة » ، وقرأ البزي : «الموودة » بهمزة مضمومة على الواو مثل " المعوذة " {[11662]} وقرأ بعض القراء : [ الموودة ] بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة ، وقرأ الأعمش : «الموْدة » بسكون الواو على وزن : الفعلة وقرأ بعض السلف : «الموَدّة » بفتح الواو والدال المشددة ، جعل البنت مودة ، وقرأ جمهور الناس : «سئلت » ، وهذا على وجه التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك ، لأنها تسأل ليصير الأمر إلى سؤال الفاعل ، ويحتمل أن تكون مسؤولة عنها مطلوباً الجواب منهم ، كما قال تعالى : { إن العهد كان مسؤولاً }{[11663]} [ الإسراء : 34 ] ، وكما يسأل التراث والحقوق .
وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد وجماعة كثيرة منهم ابن مسعود والربيع ين خيثم : «سألت »
وبمناسبة ذكر تزويج النفوس بالأجساد خص سؤال الموءودة بالذكر دون غيره مما يُسأل عنه المجرمون يوم الحساب . ذلك لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد كان بعد مفارقتها بالموت ، والموت إما بعارض جسدي من انحلال أو مرض وإما باعتداء عدواني من قتل أو قتال ، وكان من أفظع الاعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد ، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبنائهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء ، فالوأْد أفظع أعمال أهل الشرك وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها وَرُعْبِهِ بالعذاب .
وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يُقْضَى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعلُ هذا السؤال وقتاً تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء .
والوأْدُ : دفن الطفلة وهي حيّة : قيل هو مقلوب آداه ، إذا أثقله لأنه إثقال الدفينة بالتراب .
قال في « الكشاف » : « كانَ الرجل إذا وُلدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر تَرعَى له الإبل والغنم في البادية ، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها طيّبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ثم يدفَعُها من خَلْفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض . وقيل : كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإن ولدت ابناً حبسته اه .
وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدوّ عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإِملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهْلها ، قال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] وقال : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } [ النحل : 58 ، 59 ] .
وإذ قد فشا فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإِجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك ، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى .
وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه ، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته : « نِعم الصهْر القَبر » .
ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آبائهن بأنواع من الحيل مثل وقف أمْوالهم على الذكور دون الإِناث وقد قال مالك : إن ذلك من سنة الجاهلية ، ورأى ذلك الحُبس باطلاً ، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عاراً عليهن فإن لم يفعلن قطَعَهن أقرباؤهن .
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل . وبعضهم يعدها من الإِكراه .
ولم يكن الوأد معمولاً به عند جميع القبائل ، قيل : أول من وأد البنات من القبائل ربيعةُ ، وكانت كندة تئد البنات ، وكان بنو تميم يفعلون ذلك ، ووأدَ قيسٌ بن عاصم المِنْقَري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه .
ولم يكن الوأد في قريش البتةَ . وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد ابنته من قومه بناقتين عُشَرَاوين وجَمَل ، فقيل : إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة ، وقيل : وسبعين وفي « الأغاني » : وقيل : أربعمائة .
وفي « تفسير القرطبي » : فجاء الإِسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في « كتاب الشعراء » لابن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفاً .
وفي توجيه السؤال إلى الموءودة : { بأي ذنب قتلت } في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها ، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجَب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابُها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر .