قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } أي : من هؤلاء المشركين المتكبرين ، { وأحسن مقيلاً } موضع قائلة ، يعني : أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة . قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقبل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقرأ ثم إن مقيلهم لا إلى الجحيم هكذا كان يقرأ . وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة . قال الأزهري : القيلولة والمقيل : الاستراحة نصف النهار ، وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله تعالى قال : { وأحسن مقيلاً } ، والجنة لا نوم فيها . ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس .
ثم بين - سبحانه - ما سيكون عليه أصحاب الجنة من نعيم مقيم يوم القيامة فقال : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } .
والمستقر : المكان الذى يستقر فيه الإنسان فى أغلب وقته . والمقيل : المكان الذى يؤوى إليه فى وقت القيلولة للاستراحة من عناء الحر .
أى : " أصحاب الجنة يومئذ " أى : يوم القيامة " خير مستقرا " أى : خير مكانا ومنزلا فى الجنة ، مما كان عليه الكافرون فى الدنيا من متاع زائل ، ونعيم حائل " وأحسن مقيلا " أى : وأحسن راحة وهناء ومأوى ، مما فيه الكافرون من عذاب مقيم .
وقد استنبط بعض العلماء . من هذه الآية أن حساب أهل الجنة يسير ، وأنه ينتهى فى وقت قصير ، لا يتجاوز نصف النهار . قالوا : لأن قوله - تعالى - { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } يدل على أنهم فى وقت القيلولة ، يكونون فى راحة ونعيم ، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } وأما أهل النار - والعياذ بالله - فهم ليسوا كذلك لأن حسابهم غير يسير .
وقد ساق ابن كثير فى هذا المعنى آثارا منها أن سعيد الصواف قال : بلغنى أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم ليقيلون فى رياض الجنة .
وقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : يوم القيامة { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] ؛ وذلك لأن{[21464]} أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات ، والغرفات الآمنات ، فهم في مقام أمين ، حسن المنظر ، طيب المقام ، { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 76 ] ، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات ، والحسرات المتتابعات ، وأنواع العذاب والعقوبات ، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ] أي : بئس المنزل منظرا وبئس{[21465]} المقيل مقاما ؛ ولهذا قال : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : بما عملوه من الأعمال المتقبلة ، نالوا ما نالوا ، وصاروا إلى ما صاروا إليه{[21466]} ، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة والنجاة من النار ، فَنَبَّه - تعالى - بحال السعداء على حال الأشقياء ، وأنه لا خير عندهم بالكلية ، فقال : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } .
قال الضحاك : عن ابن عباس : إنما هي ضحوة ، فيقيل أولياء الله على الأسِرّة مع الحور العين ، ويَقيل أعداء الله مع الشياطين مقرّنين .
وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، قال الله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } .
وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار : هي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر ، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل [ الجنة فيُنطلق بهم إلى ]{[21467]} الجنة ، فكانت قيلولتهم [ في الجنة ]{[21468]} وأطعموا كبد حوت ، فأشبعهم [ ذلك ]{[21469]} كلهم ، وذلك قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } .
وقال سفيان ، عن مَيسَرة ، عن المِنْهَال ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } وقرأ { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 68 ] .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } قال : قالوا في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم أن{[21470]} عُرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } [ الانشقاق : 7 - 9 ] .
وقال قتادة في قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : مأوى ومنزلا قال قتادة : وحَدّث صفوان بن مُحْرِز أنه قال : يجاء يوم القيامة برجلين ، أحدهما كان ملكا{[21471]} في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب ، فإذا عبدٌ ، لم يعمل خيرا فيؤمر به إلى النار . والآخر كان صاحب كساء في الدنيا ، فيحاسب فيقول : يا رب ، ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به . فيقول : صدق عبدي ، فأرسلوه . فيؤمر به إلى الجنة ، ثم يتركان ما شاء الله . ثم يدعى صاحب{[21472]} النار ، فإذا هو مثل الحُمَمة{[21473]} السوداء ، فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : شر مَقيل . فيقال{[21474]} له : عد{[21475]} ثم يُدعَى بصاحب الجنة ، فإذا هو مثل القمر ليلة البدر ، فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : رب ، خير مَقيل . فيقال له : عد . رواها ابن أبي حاتم كلها .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، أن سعيدًا{[21476]} الصوَّاف حدثه ، أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمن{[21477]} حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك{[21478]} قوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } {[21479]} .
استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون ، لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة عُلم أن لا حظ لهم في الجنّة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون ، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان : مشركون ومؤمنون . فمعنى الكلام : المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم { خير مستقراً وأحسن مقيلاً } .
والخير هنا : تفضيل ، وهو تهكم بالمشركين ، وكذلك { أحسن } .
والمقيل : المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين .