مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا} (24)

أما قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيها على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى ، وههنا سؤالات :

الأول : كيف يكون أصحاب الجنة خيرا مستقرا من أهل النار ، ولا خير في النار ، ولا يقال في العسل هو أحل من الخل ؟ والجواب من وجوه . الأول : ما تقدم في قوله : { أذلك خير أم جنة الخلد } والثاني : يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير ، لأن مستقر خير من النار ، كقول الشاعر :

إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمه أعز وأطول

الثالث : التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع ، والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه . الرابع : هذا التفاضل واقع على هذا التقدير ، أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيرا منه .

السؤال الثاني : الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك ؟ والجواب من وجوه . الأول : أن المستقر مكان الاستقرار ، والمقيل زمان القيلولة ، فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان ، ومن الزمان في أطيب زمان . الثاني : أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم ، فإنهم يقيلون في الفردوس ، ثم يعودون إلى مستقرهم . الثالث : أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة ، قال ابن مسعود : «لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار » وقرأ ابن مسعود : ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم . وقال سعيد بن جبير : إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار . وقال مقاتل : يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة .

السؤال الثالث : كيف يصح القيلولة في الجنة والنار ، وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون ، وأهل النار أبدا في عذاب يعرفونه ، وأهل الجنة في نعيم يعرفونه ؟ والجواب : قال الله تعالى : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } وليس في الجنة بكرة وعشي ، لقوله تعالى : { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة ، بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها ، كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع ، والله أعلم .