وقوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ . . . } بدل من يوم التناد . أى : أخاف عليكم من أهوال يوم القيامة ، يوم تنصرفون عن موقف الحساب والجزاء فتتلقاكم النار بلهيبها وسعيرها ، وتحاولون الهرب منها فلا تستطيعون . لأنه لا عاصم لكم ولا مانع فى هذا اليوم من عذاب الله - تعالى- وعقابه .
{ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أى : ومن يضلله الله - تعالى - عن طريق الحق بسبب سوء استعداده ، واستحبابه العمى على الهدى ، فما له من هاد يهديه إلى الصراط المستقيم .
وهكذا نجد الرجل المؤمن بعد أن خوف قومه من العذاب الدنيوى ، أتبع ذلك بتخويفهم من العذاب الأخروى .
وقوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : ذاهبين هاربين ، { كَلا لا وَزَرَ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 11 ، 12 ] ، ولهذا قال : { مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : ما لكم مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من أضله [ الله ] {[25506]} فلا هادي له غيره .
و{ يَوْمَ تُوَلُّونَ } بدل من { يَوْمَ التَّنَادِ } ، والتولي : الرجوع ، والإِدبارُ : أن يرجع من الطريق التي وراءه ، أي من حيث أتى هَرباً من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره ، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه . و { مدبرين } حال مؤكدة لعاملها وهو { تولون } .
وجملة { مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ } في موضع الحال . والمعنى : حالةَ لا ينفعكم التولِّي .
والعاصم : المانع والحافظ . و { مِنَ الله } متعلق ب { عاصم ، } و { من } المتعلقة به للابتداء ، تقول : عصمه من الظالم ، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم . وضَمن فعل ( عَصم ) معنى : أنقذَ وانتزعَ ، ومعنى : { مِنَ الله } من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات . و { من } الداخلة على { عاصم } مزيدة لتأكيد النفي .
وَأغنى الكلام على تعدية فعل : { أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَومِ الأحْزَابِ } [ غافر : 30 ] عن إعادته هنا .
وجملة { وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } عطف على جملة { إنِّي أخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ } لتضمنها معنى : إني أرشدتكم إلى الحذر من يوم التنادي .
وفي الكلام إيجاز بحذف جُمل تدل عليها الجملة المعطوفة . والتقدير : هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد ، وفي هذه الجملة معنى التذييل .
ومعنى إسناد الإِضلال والإِغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقاً غير قابل لمعاني الحق والصواب ، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح .
وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق ، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم ، وآثر لهم هذا دون أن يقول : { ومن يهد الله فما له من مضل } [ الزمر : 37 ] لأنه أحسّ منهم الإِعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أخبر المؤمن عن ذلك اليوم فقال: {يوم تولون مدبرين} يعني بعد الحساب إلى النار ذاهبين، كقوله: {فتولوا عنه مدبرين} [الصافات:90].
{ما لكم من الله من عاصم} يعني من مانع يمنعكم من الله عز وجل.
{ومن يضلل الله} عن الهدى {فما له من هاد} يعني من أحد يهديه إلى دين الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ" فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ يُوَلّونَ هارِبِينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللّهِ وَعِقَابِهِ عِنْدَ مُعايَنَتِهِمْ جَهَنّمَ.
وتأويله على التأويل الذي قاله قتادة في معنى "يَوْمَ التّنادِ": يوم تولّون مُنْصَرِفِينَ عن موقف الحساب إلى جهنم...
وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي رُوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ...
وقوله: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادِ "يقول: ومن يخذله الله فلم يوفَقه لرشده، فما له من موفّق يوفقه له.
أكد التهديد فقال: {ما لكم من الله من عاصم}.
ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال: {ومن يضلل الله فما له من هاد}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً: {يوم تولون مدبرين} أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى {والملك على أرجائها} [الحاقة: 17].
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم: {ما لكم من الله} أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال: {من عاصم} أي مانع يمنعكم مما يراد بكم فما لكم من عاصم أصلاً فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه.
ولما كان التقدير: لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من أحوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً: {ومن يضلل اللهُ}...
{فما له من هاد} أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
صورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان!
(ومن يضلل الله فما له من هاد).. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وتلميحاً بأن الهدى هدى الله، وأن من أضله الله فلا هادي له، والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {يَوْمَ تُوَلُّونَ} بدل من {يَوْمَ التَّنَادِ}، والتولي: الرجوع، والإِدبارُ: أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هَرباً من الجهة التي ورد إليها؛ لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه.
و {مدبرين} حال مؤكدة لعاملها وهو {تولون}.
وجملة {مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ} في موضع الحال، والمعنى: حالةَ لا ينفعكم التولِّي.
و {مِنَ الله} متعلق ب {عاصم،} و {من} المتعلقة به للابتداء، تقول: عصمه من الظالم، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم، وضَمن فعل (عَصم) معنى: أنقذَ وانتزعَ، ومعنى: {مِنَ الله} من عذابه وعقابه؛ لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات.
و {من} الداخلة على {عاصم} مزيدة لتأكيد النفي، وَأغنى الكلام على تعدية فعل: {أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَومِ الأحْزَابِ} عن إعادته هنا.