المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

58- لم يعتبر هؤلاء بمصاير الأمم السابقة ، فقد أهلك الله قرى الذين اغتروا بنعمة الله ثم كفروا بها وبالله ، وهذه ديارهم خاوية لا تصلح للسكن بعدهم إلا فترات عابرة للمارين بها ، ولم يبق لها مالك بعدهم إلا الله ذو الجلال والإكرام .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

قوله تعالى :{ وكم أهلكنا من قرية } أي من أهل قرية ، { بطرت معيشتها } أي : في معيشتها ، أي : أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافرون ومارو الطريق ، يوماً أو ساعة ، معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً قليلاً . وقيل : معناه : لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، { وكنا نحن الوارثين } كقوله : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

ثم بين - سبحانه - الأسباب الحقيقية التى تؤدى إلى زوال النعم ، التى من بينها نعمة الأمان والاطمئنان ، فقال - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } .

وكم هنا خبرية للتكثير ، و { بَطِرَتْ } من البطر ، بمعنى الأشر والغرور واستعمال نعم الله - تعالى - فى غير ما خلقت له .

أى : وكثيرا من أهل قرى كانت أحوالهم كحال أهل مكة فى الأمن وسعة الرزق ، فلما بطروا معيشتهم ، واستعملوا نعمنا فى الشر لا فى الخير ، وفى الفسوق لا فى الطاعة ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم وقراهم تدميرا .

إذاً فبطر النعمة وعدم الشكر عليها ، هو السبب الحقيقى فى الهلاك ، وليس اتباع الهدى ، كما زعم أولئك المشركون الجاهلون .

قال القرطبى : " بين - سبحانه - لمن توهم ، أنه لو آمن لقاتلته العرب وتخطفته ، أن الخوف فى ترك الإيمان أكثر ، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار . والبطر : الطغيان بالنعمة " .

و { مَعِيشَتَهَا } أى : فى معيشتها ، فلما حذف " فى " تعدى الفعل ، كما فى قوله - تعالى - : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً }

ثم بين - سبحانه - مآل مساكن هؤلاء الطاغين فقال : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } .

أى : فتلك مساكن هؤلاء الطغاة ترونها يا أهل مكة فى أسفاركم - إنها لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا ، كالذى يرتاح بها وهو مسافر ثم يتركها إلى غير عودة إليها ، لأنها صارت غير صالحة لذلك لشؤمها .

{ وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } أى : وكنا نحن وحدنا الوارثين لها منهم ، لأنهم لم يتركوا أحدا يرث منازلهم وأموالهم ، أو لأنها صارت خرابا لا تصلح للسكن .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

يقول تعالى مُعَرّضًا بأهل مكة في قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي : طغت وأشرَت وكفرت نعمة الله{[22381]} ، فيما أنعم به عليهم من الأرزاق ، كما قال في الآية الأخرى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل 112 ، 113 ] ولهذا قال : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا } أي : دَثَرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم .

وقوله : { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } أي : رجعت خرابًا ليس فيها أحد .

وقد ذكر ابن أبي حاتم [ هاهنا ]{[22382]} عن ابن مسعود أنه سمع كعبًا يقول لعمر : إن سليمان عليه السلام{[22383]} قال للهامة - يعني البومة - ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت : لأنه أخرج آدم بسببه من الجنة . قال : فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت : لأن الله أغرق قوم نوح به . قال : فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت : لأنه ميراث الله عز وجل ، ثم تلا { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } .


[22381]:- في ف : "بنعم الله" وفي أ : "نعم الله".
[22382]:- زيادة من ف ، أ.
[22383]:- في ت : "صلى الله عليه وسلم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وكم أهلكنا من قرية أبطرتها معيشتها ، فبَطِرت ، وأَشِرت ، وطَغَت ، فكفرت ربها . وقيل : بطرت معيشتها ، فجعل الفعل للقرية ، وهو في الأصل للمعيشة ، كما يقال : أَسْفَهَك رأيك فسَفِهته ، وأبطرك مالك فبطِرته ، والمعيشة منصوبة على التفسير .

وقد بيّنا نظائر ذلك في غير موضع من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وكَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها قال : البطر : أَشَرّ أهل الغفلة وأهل الباطل والركوب لمعاصي الله ، وقال : ذلك البطر في النعمة فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلاّ قَلِيلاً يقول : فتلك دور القوم الذين أهلكناهم بكفرهم بربهم ومنازلهم ، لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلاً ، يقول : خربت من بعدهم ، فلم يعمر منها إلاّ أقلها ، وأكثرها خراب . ولفظ الكلام وإن كان خارجا على أن مساكنهم قد سُكِنت قليلاً ، فإن معناه : فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلاً منها ، كما يقال : قضيت حقك إلاّ قليلاً منه .

وقوله : وكُنّا نَحْنُ الوَارِثِينَ يقول : ولم يكن لما خرّبنا من مساكنهم منهم وارث ، وعادت كما كانت قبل سُكناهم فيها ، لا مالك لها إلاّ الله ، الذي له مِيراث السموات والأرض .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} (58)

عطف على جملة { أوَ لم نمكّن لهم حرماً آمناً } [ القصص : 57 ] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ ، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمِطوا النعمة وقابلوها بالبطر .

والبطَر : التكبر . وفعله قاصر من باب فَرِح ، فانتصاب { معيشتها } بعد { بطرت } على تضمين { بطرت } معنى ( كفرت ) لأن البَطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما يُسدى إليه من الخير .

والمراد : بطِرت حالة معيشتها ، أي نعمة عيشها .

والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام ، ويعلم أنها حالة حسنة من قوله : { بطرت } وهي حالة الأمن والرزق .

والإشارة ب ( تلك ) إلى { مساكنهم } الذي بيّن به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن . وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزَّل منزلة الحاضر بمرأى السامع ، ولذلك فقوله : { لم تُسكن من بعدهم } خبر عن اسم الإشارة والتقدير : فمساكنهم لم تُسكَن من بعدهم إلا قليلاً .

والسكنى : الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمناً طويلاً .

ومعنى { لم تُسكْن من بعدهم } لم يتركوا فيها خلفاً لهم . وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم .

وقوله { إلا قليلاً } احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها .

وانتصب { قليلاً } على الاستثناء من عموم أزمان محذوفةٍ . والتقدير : إلا زماناً قليلاً ، أو على الاستثناء من مصدر محذوف . والتقدير : لم تسكن سكناً إلاّ سكناً قليلاً ، والسَّكْن القليل : هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى . فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء ، أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجعين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة . والمعنى : فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر ، أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا .

وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مرّ في طريقه إلى تبوك بحجْر ثمود فقال : « لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين » أي خائفين أي اقتصاراً على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقاً لقدره .

وجملة { وكنا نحن الوارثين } عطف على جملة { لم تُسكن من بعدهم } وهو يفيد أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحلُّ فيها قوم آخرون بعدهم فعُبِّر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة .

وقصْر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي ، أي لا يرثها غيرنا . وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن . وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكن لأن بهجة المساكن سكانها ، فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها .